الجمعة، 20 أغسطس 2010

اليمن المطلوب تغييره (الفصل الرابع عشر: فقر المهاجر)


"قبل سنتين زفروني إلى حرض وهناك تجمعنا 8  أشخاص واتفقنا على المسير معا. عبرنا منفذ الخدور ولم تشاهدنا الدوريات، ولكن بعد عبورنا كيلو متر واحد فوجئنا بعسكري من سلاح الحدود السعودي، كان يختبئ في مزرعة، خرج علينا وأشهر السلاح، وحين رآنا 8 أشخاص تخوف وطلب منا الانبطاح على الأرض وعدم الحركة. وأثناء انبطاحنا لدغت إحدانا عقربة واخذ يصيح ويتألم. الجندي السعودي لم يصدق بل اعتبرها حيلة  وأطلق علينا الرصاص. لم تصب أي منا. كان معنا شاب عمره 17 عاما تلفظ على العسكري ووصفه بالجبان. وعند وصول الدورية السعودية بعد سماع طلق الرصاص، قام الجندي السعودي بلطم الشاب اليمني لطمات متتالية، والله أكثر من 20 لطمة مما أثار استنكارنا، فقام بلطمنا جميعا، حتى الملدوغ من العقرب لم يسلم من اللدغ. ثم قالوا احملوا خويكم وعودوا بلادكم. تركة أبوكم مش في السعودية."    

من حديث مواطن يمني عن تجربته في التسلل إلى السعودية
 إلى صحيفة  الشارع في 5 يناير 2008


شغلت الصحافة اليمنية المستقلة خلال النصف الثاني من أغسطس 2008 بمأساة 250 يمنياً دفع كل منهم ما بين 16 إلى 20 ألف ريال سعودي، أو ما يعادل  800 إلى مليون ريال يمني، لشراء فيزة تمكنه من الدخول والإقامة والعمل في السعودية. البعض باع أو رهن الأرض التي ورثها عن أبيه، والذي ورثها بدوره عن جده، والبعض الآخر باع ذهب الزوجة، والبعض الثالث استدان أموال الناس على أمل أن  يتمكن من سدادها لاحقا عندما يباشر عمله في المهجر.
وقد أتبع أولئك العمال الإجراءات القانونية المطلوبة. وحصلوا على تأشيرات من السفارة السعودية في صنعاء. وابتدأت محنتهم عندما عبروا حدود السعودية. فبدلاً من أن ينتهي بهم الأمر إلى مباشرة أعمالهم، تم وضعهم في الحجز لمدة قاربت الشهر، وبعدها، تم الختم على جوازاتهم بعبارة  "خروج نهائي." وحملتهم الباصات نحو الحدود اليمنية.   وكما يبدو من الموضوعات التي نشرتها الصحف، فإن السلطات السعودية ربما رحلتهم لإنه سبق لهم أن دخلوا السعودية عن طريق التهريب  وتم ألقاء القبض عليهم وأخذ بياناتهم وبصماتهم ثم تم ترحيلهم.
ورغم أنهم هذه المرة دخلوا بطرق شرعية كما يقولون..حصلوا على فيز قانونية..حصلوا على تأشيرات من السفارة السعودية..ربما غيروا بعض البيانات هنا وهناك لضمان أن السلطات السعودية لن تمنعهم من الدخول بسبب ماضيهم..وما أكثر ما يغير اليمني من بياناته ليتمكن من العبور إلى السعودية. لكن كل ذلك لم يحسن فرصهم في الحصول على الوظائف التي يحلمون بها، أو في البقاء في السعودية. لقد تغير العالم في حين أن اليمنيين ما زالوا يفكرون بنفس الطريقة البسيطة، يحلمون بان يسمح لهم بالمرور بعد الحصول على جواز جديد باسم جديد. لا يعرفون أن العالم أصبح أكثر تعقيداً وأنه بات يتعامل مع الناس ببصمة العين وليس فقط الإبهام، وبالصورة وليس فقط بالإسم كما كان عليه الحال.  ولم يشفع لهم فقرهم وما خسروه من أموال لإن الأنظمة التي تتبعها الدول عادة لا عواطف لها ولا مشاعر ولا تتعامل مع بني البشر الا على أنهم أرقام في رقعة الشطرنج.[1]      
قبلها، وتحديداً في الأسبوع الأول من أغسطس 2008، كانت العديد من الصحف والمواقع اليمنية والعربية قد تناقلت  خبرًا حول  وفاة 15  شخصا يعتقد أن منهم 13 يمنيا واثنين من مهربيهم السعوديين في صحراء "المهمل" شمال محافظة "بيشة" السعودية. وذكرت تلك المصادر أن السلطات السعودية عثرت على جوازين يمنيين مع اثنين من الضحايا الـ15، الذين لقوا حتفهم عطشا بعد أن تاهوا في الصحراء، وعلقت سيارتهم في الرمال،  واختفت القصة بنفس الطريقة التي طفت بها. وصحيح أن اليمنيين ليسوا وحدهم الذين يعبرون خط الحدود الذي يفصل بين بلادهم وجارتهم الغنية وأن صوماليين وأفارقة آخرين يعبرون الحدود بطريقة غير شرعية إلا أن معظم الذين يعبرون الحدود عن طريق التهريب هم يمنيون.   
وقبلها أيضا كانت الصحف والمواقع الإخبارية وخصوصًا اليمنية قد شغلت نفسها في نهاية شهر يونيو وطوال شهر يوليو 2008 بالحريق الذي تعرض له 18 يمنياً كانوا يختبئون في محوى للقمامة بمدينة خميس مشيط السعودية هرباً من ملاحقة السلطات السعودية لهم. وقال المصابون، بعد أن أصبحت قضيتهم محط إهتمام الرأي العام،  أن الجنود السعوديين الذين كانوا يلاحقونهم بسبب دخولهم المملكة عن طريق التهريب قد أشعلوا النار في المحوى وجلسوا يقهقون في إنتظار خروج "أبو يمن" كما يطلق على اليمني في المملكة.   لكن السلطات السعودية أنكرت بأن الدورية التي كانت تلاحق المتسللين اليمنيين هي التي أضرمت النار في المحوى.   وقالت أن الحريق اندلع بسبب قيام مجهولين بإضرام النار.
وفي أواخر يوليو من نفس العام، قالت تقارير صحفية بأن 6 أطفالاً يمنيين تتراوح أعمارهم بين ال14 وال16 من العمر قتلوا برصاص حرس الحدود السعودي خلال محاولتهم التسلل إلى السعودية للبحث عن فرص عمل.[2]  وما أكثر الحوادث الفردية أو الجماعية التي يلقى فيها اليمنيون حتفهم، أما بسبب إنقلاب لوري يحملهم عائدا بهم نحو حدود بلادهم، أو بسبب المعاملة السيئة في السجون السعودية.  وعلى سبيل المثال فقد نشرت صحيفة الشارع اليمنية  في عدديها أرقام 29، و30 الصادرين في 5، و12 يناير 2008 تحقيقاً ميدانياً عن عمليات التهريب إلى السعودية والمخاطر التي يتعرض لها اليمنيون من رجال ونساء وأطفال، والتي تشمل سلب الممتلكات والضياع في الصحراء والموت بسبب الجوع والعطش، أو برصاص حرس الحدود السعودي، أو بلدغ الثعابين، أو بسبب إزدحام السجون.[3]  
لقد كان اليمنيون الشماليون، خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، يتنقلون بحرية بين اليمن والسعودية. ولم يكونوا بحاجة إلى التهرب. كان يكفي أن يحصل الواحد منهم على جواز سفر ليقدمه إلى النقطة الحدودية السعودية التي يمر عبرها فيحصل على تأشيرة دخول. وكان بإمكان اليمني أن يبقى طوال العمر أن شاء. وكان كل المهاجرين إلى السعودية، ومن مختلف الدول، لا بد أن يحصلوا على كفيل سعودي يعملون لحسابه، وهو المسئول عنهم في كل صغيرة وكبيرة. أما اليمنيين فقد كانوا معفيين من ذلك الشرط. ولم تكن الإمتيازات التي يحصل عليها اليمنيون في السعودية تقتصر على حرية دخول المملكة بدون تأشيرة مسبقة والعمل فيها بدون الخضوع لكفيل، بل كانت تمتد إلى حرية مزاولة أنشطة اقتصادية معينة مثل إمتلاك المطاعم والدكاكين والبقالات، وحتى محلات بيع الملابس والزينة والذهب، وغيرها من الأنشطة المشابهة.
وقد تقلصت تلك الإمتيازات تدريجيا.  وفي أغسطس 1990،  وبعد ثلاثة أشهر على توحيد اليمن، بلغ الأمر ذروته.  فقد قام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بغزو جارته الكويت بعد خلاف سياسي بين الدولتين حول مطالبة الكويت بقروض لها لدى العراق، وامتدت الخلافات بين البلدين بعد ذلك لتشمل الحدود وحقول النفط الواقعة على حدود البلدين، ووقفت الجمهورية اليمنية من الأزمة موقفا تقول قيادات اليمن أنه كان محايدًا وأن المجتمع الدولي أساء فهمه وأن هناك من صوره على أنه موقف منحاز إلى جانب العراق.  
وكنتيجة مباشرة لذلك الموقف اليمني، قامت السلطات السعودية بإلغاء الإستثناء الذي كان يعطى لليمنيين، وأعطت مئات الآلاف من اليمنيين فترة لا تتجاوز الشهر لإيجاد كفلاء وتسوية أوضاعهم القانونية أسوة بغيرهم من المقيمين في المملكة. ولم يكن ممكنا لليمنيين، وفي ظل التوتر الذي خلقته أزمة غزو الكويت أن يحصلوا على كفلاء سعوديين شأن غيرهم  من الجنسيات. وكانت النتيجة أن مئات الآلاف من المغتربين اليمنيين أضطروا إلى بيع ممتلكاتهم، ومحلاتهم التجارية بأسعار بخسة، وعادوا إلى بلادهم. وحدث أمر مشابه للمغتربين اليمنيين في الكويت، وان اختلفت الأسباب.  
ودخلت العلاقات اليمنية السعودية في أزمة شديدة، ولم تبدأ تلك العلاقات في التحسن إلا في عام 1995.  ورغم ذلك التحسن، ظلت أبواب السعودية مغلقة في وجوه اليمنيين، وظل الحضور اليمني في السعودية رمزياً برغم سعي اليمنيين للحصول على كفلاء.  ولعل أبرز انفراج شهدته العلاقات اليمنية السعودية قد كان بعد توقيع الإتفاق النهائي بشأن الحدود بين الدولتين في عام 2000  والذي إعترفت بموجبه الحكومة اليمنية بالسيادة السعودية على المناطق الحدودية المتنازع عليها. ومع أن اليمنيين حكومة وشعباً أملوا أن يؤدي التوقيع على إتفاقية الحدود إلى عودة الإمتيازات التي تمتع بها اليمنيون في المملكة قبل عام 1990، الا أن ذلك لم يحدث.    
ولم يتمكن الكثير من اليمنيين الساعين للحصول على فرص عمل في المملكة  من الإستفادة  من نظام الكفيل، وذلك  بسبب حدوث تحولات في سوق العمل السعودية، وإزدياد الطلب على العمالة الماهرة ، وكذلك بسبب وجود عمالة أسيوية منخفضة التكلفة، وسياسة "سعودة" الوظائف لمواجهة البطالة المتنامية في صفوف السعوديين.   
ولم يجد اليمنيون من طريقة لدخول السعودية سوى السوق السوداء للفيز السعودية، والتي تكلفهم مبالغ طائلة وتجعل البعض منهم يبيع ذهب زوجته أو أرضه ليشتري "الفيزة." وحيث أن السوق السوداء لفيز العمل لا تضمن للعامل أي وظيفة عند دخوله إلى السعودية، فإن فرصته في الحصول على عمل صغيرة في الغالب. وحتى إذا عمل فإن "الإتاوات" التي يتم دفعها للكفيل نظير تجديد الفيزة، أو إستخراج الإقامة، أو أي معاملة أخرى، يمكن أن تبتلع كامل دخله، وقد تضطره للإستدانة للوفاء بتلك الإلتزامات.
وإذا كان التهريب إلى السعودية قد شهد ركودا مع سوء الأوضاع الإقتصادية في السعودية، فإن الطفرة النفطية التي حدثت في السنوات الأخيرة، وتدهور الأوضاع في اليمن، قد جعلت الكثير من اليمنيين ينظرون إلى مغامرة عبور الحدود، رغم ما تحمله من تكلفة مادية ومعنوية، على أنها الأمل الأخير لهم ولأسرهم في الحياة  بعد أن ضاقت بهم السبل داخل بلادهم.
وهكذا تحولت الحدود السعودية اليمنية إلى ممرات للتهريب. تهريب البشر والسلاح والمخدرات والقات والعسل وكل ما يمكن تهريبه. وربما زاد عدد اليمنيين المقيمين في السعودية بشكل غير قانوني عن عدد اولئك المقيمين بشكل قانوني.     
ولم تكن السعودية وحدها من أغلق أبوابه في وجه العمال اليمنيين،  فقد إتبعت دول الخليج الأخرى سياسات مشابهة، واقتصر وجود اليمنيين في معظمها على تمثيل رمزي..وتعددت المبررات..هناك أسباب لها علاقة بالسياسة، وتحديدا بموقف اليمن من الغزو العراقي للكويت. وهناك أسباب تتصل بكون العمالة اليمنية غير ماهرة، أو بارتفاع التكلفة.. وهناك أسباب تتصل بالتكوين الإجتماعي لتلك الدول. ونمت النظرة السلبية إلى اليمني وبحيث صارت بعض الدول تسمح لمختلف القوميات بالحصول على تأشيرات لدخول إلى أراضيها باستثناء اليمنيين، حتى وإن كان الحديث عن تأشيرة عبور.  
وجاءت أحداث ال11 من سبتمبر 2001  لتزيد من إحكام الحصار حول اليمنيين وتشل قدرتهم على الحركة والبحث عن مكان يمكن أن يجدوا فيه رزقا. ولم تعد أبواب الخليج وحدها هي التي أغلقت في وجوههم.  فقد صار من الصعب على اليمني أن يهاجر إلى أمريكا، أو إلى أي دولة أوروبية، أو حتى أن يمر ترانزيت في مطارات بعض الدول.  وتعرض اليمنيون الذين هاجروا إلى أمريكا، وحتى الذين اكتسبوا الجنسية إلى الكثير من المضايقات. والخلاصة أن المهاجر قد أغلقت في وجه اليمنيين، وباءت محاولات الحكومة اليمنية بفتح أسواق الخليج أمام العمالة اليمنية بالفشل حتى الآن.
وما زالت الحكومة اليمنية تراهن على فتح أسواق الخليج أمام العمالة اليمنية تارة، وعلى ضم اليمن إلى مجلس التعاون الخليجي تارات أخرى..وليس من المستبعد أن تؤدي الأزمة المالية العالمية والتراجع الحاد في أسعار النفط  إلى تراجع إقتصادي في المملكة العربية السعودية يضطر معه الكثير من اليمنيين إلى العودة إلى بلادهم.     


[1]  انظر على سبيل المثال: فواز غانم، "250 شابا في مهب الريح"، الغد، العدد (75)، 22 سبتمبر 2008، 4؛ سامية الأغبري، "نحو 230 يمنيا خذلتهم الفيزا السعودية وخارجية صنعاء قالت لهم هذا قرار سعودي ايش نسوي لكم"، الشارع، العدد (66)، 20 سبتمبر 2008،  2
[2]  موقع Gulf in the Media ، نقلا عن موقع نبأ نيوز بتاريخ 27 يوليو 2008.
[3]  انظر:محمد غالب عزوان، "قصص وحوادث مثيرة عن المتسللين اليمنيين الى السعودية"، الشارع، العدد (29)، 5 يناير 2008؛ "الشارع تتجول في مناطق الحدود الشمالية مع السعودية، وتقوم برحلة في طريق تهريب القات والمخدرات"، الشارع، العدد (30)، 12 يناير 2008. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق