الثلاثاء، 17 أغسطس 2010

أسطورة الحياد!


د. عبد الله الفقيه
أستاذ العلوم السياسية بجامعة صنعاء
 عن صحيفة الرشد
للحقيقة في عالمنا المعاصر ثلاثة أبعاد: بعد موضوعي، وبعد إعلامي، وبعد إدراكي. البعد الموضوعي يتمثل في الأحداث كما تجري تفاصيلها على ارض الواقع؛ والبعد الإعلامي، وهو الصور التي يعكسها الإعلام لتلك الأحداث وهي في الغالب صور "مفلترة" تعكس أجندة وانحيازات ومصالح وسائل الإعلام والممولين لها والعاملين فيها. أما البعد الثالث فيتمثل في ادراكات جمهور المشاهدين الذين يتأثر فهمهم وتفاعلهم واستجاباتهم للرسائل التي يتعرضون لها  بما لديهم  من انحيازات  واحكام مسبقة وتجارب وتصورات عن مختلف الظواهر من حولهم. ومن المؤسف أننا نعيش في عالم تتلاشى فيه الحقائق الموضوعية مفسحة الطريق للحقائق التي يصنعها الإعلام أو يدركها المتلقون. 
ومع ان الافتراض هو ان الإعلام محايد  الإ ان وسائل الإعلام تمارس باستمرار عمليات فرز..فبعض الموضوعات والأحداث تحظى بالتغطية بمعنى الظهور في وسائل الأعلام بشكل متكرر  والبعض الآخر يحظى بالتغطية عليه أي بالعمل على إخفائه بشكل متكرر أيضا.  ومع انه من المنطقي أن يعتقد الواحد منا  ان الموضوعات الهامة للناس تحظى بالتغطية الإعلامية، الإ ان ذلك الاعتقاد ليس صحيحا دائما. فالأجندات المهيمنة في المجتمع هي التي تحدد ما الذي يغطي وكيف يتم تغطيته وما الذي يتم التغطية عليه.      
وصحيح ان وسائل الإعلام لا تستطيع ان تقول للناس كيف يفكرون في قضية معينة، كما يقول الخبراء، الإ أنها تستطيع ان تقول للناس ما الموضوعات التي ينبغي ان يفكرون بها  وأي تلك الموضوعات أكثر أهمية من غيرها.
لقد مارس الإعلام الأمريكي والأوروبي المتهم بعدائه للعرب والمسلمين وتحيزه لإسرائيل، ومعه بعض وسائل الإعلام العربية على سبيل المثال كافة أشكال  الفلترة على  جرائم إسرائيل في غزة أواخر عام 2008.  وتم في الكثير من وسائل الإعلام الأمريكية إما تجاهل ما يحدث في غزة تماما، وهو ما يعني نفي وجودها، أو تغطيتها بشكل هامشي وهو ما يعني عدم أهميتها، أو تغطيتها بطريقة تفرغها من أبعادها الحقيقية وتحول الضحية إلى جان والجاني إلى ضحية. وللتمثيل فقط فقد دأبت الكثير من وسائل الإعلام الغربية على إنهاء تغطيتها بالإشارة إلى ان العمليات الإسرائيلية في غزة هي لحماية الإسرائيليين من صواريخ حماس. 
وفي مواجهة إعلام غربي وعربي يحاول التغطية على ما يحدث أو غير قادر على الوصول إلى مكان الحدث، لعبت قناة الجزيرة يومها دورا جوهريا في نقل الأحداث على الهواء وفي توثيق المجازر التي ارتكبت ضد الشعب الفلسطيني.
وما حدث في غزة يومها، وربما انه يحدث لأول مرة في التاريخ الإنساني، هو أن البعد الموضوعي لعمليات الإبادة قد تزامن  مع بعد إعلامي  نقل الصواريخ  إلى غرف النوم  وغرف الجلوس في كل بيت عربي. ونجحت قناة الجزيرة في جعل مشاهدها يواجه مصيره المحتوم  مثله مثل الفلسطيني وان بشكل مختلف. وفي الوقت الذي كان فيه الإعلام الأمريكي والأوروبي يصور المذابح في غزة على انها ملاحقة لإرهابيين يهددون امن اليهودي المسالم في اسرائيل، كانت الجزيرة تبث وعلى الهواء جرائم القتل الجماعي للنساء والأطفال والعزل من السلاح. وفرضت تغطية الجزيرة للوقائع على الأرض على الزعماء العرب والغربيين وضع ما يحدث في غزة على راس قائمة الموضوعات التي  ينبغي التصرف بشأنها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق