الثلاثاء، 19 مارس 2019

عاصفة الخلافات تهب على السعودية...(غير مسلسل 10)



جاء أول رد سعودي معارض، وإن اتخذ طابعا غير رسمي، على الاتفاق النووي الموقع مع إيران في 14 يوليو 2015، على شكل مقال كتبه ونشره الأمير  بندر بن سلطان بن عبد العزيز، وهو سفير سابق للسعودية إلى واشنطن لفترة زادت على عقدين من الزمن ورئيس سابق للاستخبارات السعودية، وإن لفترة قصيرة.  وانتقد مقال بندر، وإن بدبلوماسية، الاتفاق النووي مع إيران مستعيرا في السياق مقولة شهيرة لهنري كيسنجر وزير خارجية أمريكا الأسبق  ذهب فيها إلى أنه "على أعداء أمريكا أن يخشوا أمريكا ، لكن على أصدقائها أن يخشوها أكثر." 

ويبدأ مقال بندر الذي نشر باللغتين العربية والانجليزية في منتصف يوليو على النحو التالي:

"يقول نقادٌ في الإعلام وفي السياسة إن الاتفاق النووي الذي عقده الرئيس باراك أوباما مع إيران هو نسخة طبق الأصل عن الاتفاق النووي الذي عقده الرئيس الأسبق بيل كلينتون مع كوريا الشمالية، إلا أنني، وبكل تواضع، لا أتفق مع هذا الرأي. فالرئيس كلينتون اتخذ قراره آنذاك على أساس تحليل استراتيجي للسياسة الخارجية الأميركية، وعلى معلومات استخبارية سرّية، على رغبته ونواياه الحسنة لإنقاذ شعب كوريا الشمالية من مجاعة تسببت بها قيادته. واتضح بعد ذلك أن ذلك التحليل الاستراتيجي للسياسة الخارجية كان خاطئًا، إلى جانب فشل استخباراتي كبير، لو عرف به الرئيس كلينتون قبل اتخاذه قراره لما اتخذه، وأنا واثق تمامًا من ذلك."

والواضح أن افتتاحية مقال بندر يغلب عليها الجانب الدعائي. فاستدعاء تجربة الاتفاق بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية في عهد الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون يحيل إلى حالة فشلت فيها أمريكا في احتواء الانتشار النووي ويحاول تعميم ذلك الفشل إلى الحالة الإيرانية رغم أنه ليس هناك من حيث المبدأ أي تشابه بين حالتي كوريا الشمالية وحالة إيران. ففي الحالة الأولى يحاول بلد يعاني اقتصاديا ويواجه نظامه تحديات أمنية استخدام قدراته التكنولوجية في الجانب العسكري كمصدر قوة يمكنه، في إطار سعيه لحل مشاكله الاقتصادية والأمنية، أن يوازن به قوة خصومه على مائدة المفاوضات.

أما في حالة إيران، فإن ما حدث مع نهاية عقد الثمانينيات ومن خلال نظام العقوبات الذي فرضته الولايات المتحدة هو محاولة خلق مشاكل اقتصادية واجتماعية للنظام الثوري الإسلامي في إيران للعمل على إسقاطه، غير أن ما حدث هو أن نظام العقوبات قد عمل على تحفيز القدرات الكامنة لمواجهة التهديد الوجودي لبقاء النظام الإيراني وتوجيهها نحو تكنولوجيا التسلح بما في ذلك حيازة التكنولوجيا النووية. والأكثر من ذلك هو أن أمريكا، في حالة كوريا الشمالية، هي من تخلت عن التزاماتها بموجب الاتفاق، الأمر الذي حفز كوريا الشمالية على المضي قدما في تطوير برنامجها النووي.  

وينتقل بندر، الذي يصنف في الدوائر الأمريكية على أنه من جناح الصقور في العائلة المالكة في السعودية، بعد ذلك إلى قرار اوباما بإبرام صفقة مع إيران، فيكتب:

"الرئيس أوباما (...) اتخذ قراره بالمضي قدمًا في الصفقة النووية مع إيران وهو مدركٌ تمام الإدراك أن التحليل الاستراتيجي لسياسته الخارجية، والمعلومات الاستخبارية المحلية وتلك الآتية من استخبارات حلفاء أميركا في المنطقة لم تتنبأ جميعها بالتوصل إلى نتيجة الاتفاق النووي نفسها مع كوريا الشمالية فحسب، بل تنبأت بما هو أسوأ، إلى جانب حصول إيران على مليارات من الدولارات. فالفوضى ستسود الشرق الأوسط، الذي تعيش دوله حالة من عدم الاستقرار، تلعب فيها إيران دورًا أساسيًا."

وبالطبع فإن ذهاب بندر في مقاله، بالتلميح لا التصريح، إلى أن إيران يمكن أن تخدع الدول الخمس العظمى مضافا إليها ألمانيا لم يخلو من مبالغة ناهيك بالطبع عن أن إيران ليس لديها أي حافز لتقدم على ما قامت به كوريا الشمالية، على أن تركيز بندر هذه المرة بالتصريح وليس التلميح على المليارات التي ستحصل عليها إيران وعلى الدور الإقليمي الذي تلعبه إيران قد لامس جوهر المخاوف السعودية والإسرائيلية.

ثم يطرح بندر في مقاله السؤال التالي: " لماذا يصر الرئيس أوباما على عقد مثل هذه الصفقة رغم أنه يعرف ما لم يعرفه الرئيس كلينتون عندما عقد صفقته مع كوريا الشمالية؟" ويجيب بندر على السؤال الذي طرحه على النحو التالي:

"ليس الأمر بالتأكيد أن الرئيس أوباما ليس ذكيًا بما فيه الكفاية، ولكن لأنه ذكي بما فيه الكفاية. وأرى أن السبب الحقيقي وراء عقد هذه الصفقة هو أن الرئيس أوباما صادقٌ ومتصالح مع نفسه، ولأنه مقتنع تمامًا بأن ما يفعله هو الصحيح. واعتقده يرى أن كل ما يمكن أن يكون كارثيًا بسبب قراره هذا هو ضرر جانبي مقبول.لكن، من أكون أنا لأخرج بمثل هذا الاستنتاج العميق؟"

ورغم أن بندر لم يعد يشغل أي موقع رسمي وأن المقال بدا كما لو كان رد فعل عفوي لشخص ينتمي إلى الأسرة المالكة، إلا أنه لم يكن ليفت إدارة اوباما أن مقال بندر صاحب النفوذ في واشنطن هو في الواقع رسالة إلى الكونجرس الأمريكي بمجلسيه والى جزء هام من الرأي العام الأمريكي وأن هدف المقال محو ما يريد اوباما إقناع الكونجرس والرأي العام الأمريكي  به من أن السعوديين يؤيدون الاتفاق النهائي الذي تم التوصل إليه مع إيران.

كان من السهل، تماما كما اعتقد اوباما، أن يفهم مقال بندر من قبل المشرعيين الأمريكيين والنخب الإعلامية والفنية والثقافية وحتى الرأي العام على أنه وجهة النظر الرسمية للأسرة الحاكمة في السعودية، ذلك لأنهم لم يعرفوا بندر خلال أكثر من عقدين من الزمن في واشنطن سوى  كمعبر عن وجهة النظر الرسمية للسعودية. وما يعزز وجهة نظر أوباما هو أن بندر قد حرص في المقال ذاته على أن يذكر الأمريكيين بنفسه ليزيل أي شكوك يمكن أن تساورهم حول شخصه حيث كتب، في رده على سؤال "من أكون أنا لأخرج بمثل هذا الاستنتاج العميق؟" الذي أنهى به المقطع السابق من المقال، ما يلي:

"بكل تواضع، أنا رجل عمل مباشرة مع رؤساء الولايات المتحدة من جيمي كارتر حتى جورج دبليو بوش. وبكل تواضع، أنا رجل مثّل بلاده في الولايات المتحدة الأميركية العظيمة 23 عامًا، وقضى 17 عامًا من حياته يخدم في جيش بلاده. وإن كان كل هذا لا يؤهلني للإدلاء برأي مستند إلى معلومات أكيدة بشأن هذه المسألة، يمكنني أن أضيف أنني منذ 2005 وحتى 2015، شغلت منصب مستشار الأمن القومي لقادة بلادي، ورئيسًا للاستخبارات، ما مكنني من الاطلاع مباشرة على قرارات قيادة بلادي، وعلى التحليل الذي يقدمه الرئيس أوباما."
  
وينهي بندر مقاله، الذي يعبر عن وجهة نظره،  بالكشف عن حجم الفجوة الواسعة بين السعوديين من جهة، وإدارة اوباما من جهة ثانية، وذلك على النحو التالي:

"لقد قصرت ملاحظاتي على الاتفاق النووي الإيراني، لكن ثقوا بي حين أقول إن سياسات الرئيس بشأن الشرق الأوسط عمومًا وسوريا والعراق واليمن بصفة خاصة فتحت عيوننا على شيء لم نكن نتوقعه منه ويمكن مناقشتها في وقت آخر. أما الآن، وبكل تأكيد، أنا أكثر اقتناعًا من أي وقت مضى بأن صديقي العزيز، الثعلب القديم هنري كيسنجر، كان مصيبًا حين قال: ’على أعداء أميركا أن يخشوا أميركا، لكن على أصدقائها أن يخشوها أكثر.’ في النهاية ان الناس في منطقتي يتوكلون على الله ويعززون قدراتهم وتحليلهم للوضع بالتعاون مع الجميع، باستثناء حليفنا الأقدم والأقوى. هذا يفطر القلب، إلا أن الحقائق مرّة، ولا يمكن تجاهلها."

اكتفت إدارة اوباما برد مقتضب على مقال بندر نسب إلى مستشار لم يتم تسميته وركز على حب الأمير بندر وتبنيه لوجهة نظر الجمهوريين وهو الأمر الذي كان الأمريكيون، والديمقراطيون منهم على نحو خاص، يعرفونه جيدا منذ حضور السفير بندر في 5 نوفمبر عام 1992 بالمخالفة للأعراف الدبلوماسية إلى المقر الانتخابي للرئيس جورج بوش الأب في مدينة هيوستن بولاية تكساس ليتابع معه نتائج الانتخابات، وليظهر بشكل واضح انحياز سفير السعودية للمرشح الجمهوري الذي مني بالهزيمة في تلك الانتخابات الرئاسية لصالح المرشح الديمقراطي بيل كلينتون الذي بدأ الأمير بندر مقاله بمدحه.


الاثنين، 4 مارس 2019

عاصفة الخلافات تهب على السعودية...(غير مسلسل 9)



في 22 مايو 2015 ، وهو اليوم الذي فجر فيه انتحاري يرتدي حزاما ناسفا نفسه في مسجد للشيعة ببلدة القديح في محافظة القطيف السعودية مخلفا 22 قتيلا وعشرات الجرحى،  أعلن "الجيش اليمني الإلكتروني"، كما نقل موقع العربي الجديد، أنه اخترق كمبيوترات/موقع وزارة الخارجية السعودية وبريد سفاراتها  وقنصلياتها في العالم وأنه حصل على مئات الوثائق الإلكترونية بالغة الحساسية بالإضافة إلى مراسلات بين مسئولين سعوديين كبار.  ورد رئيس الدائرة الإعلامية بوزارة الخارجية السعودية عند السؤال عن الموضوع، كما نقلت عنه وكالة الأنباء السعودية، أن عملية القرصنة كانت محدودة، وأن الوزارة باشرت، بالتعاون مع الجهات المختصة، التحقيق في ظروف وملابسات الهجوم.
 
وفي 19 يونيو، وبالتزامن مع انتهاء مشاورات جنيف اليمنية-اليمنية بالفشل، ومع انتهاء زيارة قام بها الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد السعودي-وزير الدفاع إلى موسكو وأجرى خلالها مباحثات مع المسئولين الروس ومن ضمنهم الرئيس بوتين، نشر موقع ويكيليكس المتخصص بالتسريبات أكثر من 60 ألف وثيقة قال أنها تخص وزارة الخارجية السعودية. وقال جوليان اسانج، ناشر الموقع، في تصريح صحفي، أنه حصل على نصف مليون وثيقة دون تسمية مصدر تلك الوثائق، وأن ما تم نشره ليس سوى "الدفعة الأولى"، وخلص اسانج إلى أن "البرقيات السعودية" كما اسماها "تميط اللثام عن دكتاتورية تتسم على نحو متزايد بالغموض والتشويش لم تكتفي فقط بالاحتفال بقطع رأس 100 شخص في هذا العام، بل أصبحت أيضا خطرا على نفسها وعلى جيرانها.."
  
ودعت وزارة الخارجية السعودية في ذات الليلة السعوديين إلى تجنب تصفح أي موقع الكتروني بحثا عن وثائق ومعلومات مسربة، مشيرة إلى أن تلك الوثائق والمعلومات قد تكون غير صحيحة، ونشرت بقصد الإضرار بالوطن.   



وفي مساء 20 يونيو، أي في اليوم التالي لتسريبات ويكيليكس، ألقت السلطات الأمنية الألمانية القبض علي الصحفي المصري، الذي يعمل  في قناة الجزيرة القطرية، احمد منصور بينما كان يغادر مطار برلين متوجها إلى الدوحة بعد أن قدم من المانيا عددا من حلقات برنامج "بلا حدود" الذي تبثه قناة الجزيرة استضاف خلالها عددا من الباحثين في المعهد الألماني للدراسات الدولية والأمنية (غيدو شتاينبرج).  وقبض على منصور، الذي ينتمي إلى حركة الإخوان المسلمين، كما ذكرت وسائل إعلامية، بناء على مذكرة تلقتها السلطات الألمانية من نظيرتها المصرية تتهم منصور "بنشر أكاذيب هددت الأمن الداخلي للبلاد."

وشغلت حادثة القبض على صحفي الجزيرة احمد منصور الكثير من رواد الشبكات الاجتماعية والمتابعين لوسائل الإعلام غير أنها لم تنجح كلية في صرف انتباههم عن الوثائق السعودية المسربة مع أن الكثير من تلك الوثائق لم يكن يحمل في مضمونه أي قيمة موضوعية.  فما الفائدة التي يمكن أن يجنيها القارئ إذا عرف أن أمير سعودي وجه مذكرة إلى وزير خارجية بلاده يطلب فيها  منح فيزا دخول إلى السعودية للمغنية الشهيرة نانسي عجرم كي تقوم بالغناء في حفل زفاف احد أقاربه أو قريباته.

بالنسبة للوثائق التي حملت بعض الأهمية للقارئ، فقد تركز اغلبها في الممارسات السعودية المتصلة بشراء الصحفيين والسياسيين والصحف ووسائل الإعلام الأخرى، وهي أمور لم تكن مجهولة بالنسبة للكثير من المشتغلين بالشأن السياسي والإعلامي في المنطقة، وكل ما فعلته تلك الوثائق هو أنها حولت المعرفة الظنية غير المحددة إلى معرفة يقينية.
   
وربط محللون بين تسريب الوثائق السعودية والاتفاق الوشيك بين إيران والغرب حول البرنامج النووي الإيراني والذي يعارضه السعوديون بقوة، وذهب أولئك المحللين إلى أن التسريب يربك التحركات السعودية لإحباط الاتفاق. ولا يعتقد أن ذلك عكس حقيقة ما يحدث خصوصا وأن السعوديين، ورغم معارضتهم للاتفاق، لم يكونوا يقوموا بأي تحركات مهمة تستدعي الإرباك. فقد كانت إدارة اوباما تمسك بخناق السعوديين وتحصي حركاتهم وتعد أنفاسهم عندما يتعلق الأمر بالمفاوضات الجارية حول البرنامج النووي لإيران.

وينطبق ذلك على الزيارة ذات الأهمية الرمزية التي قام بها ولي-ولي العهد السعودي وزير الدفاع محمد بن سلمان إلى موسكو، وعلى الزيارة التي كان يتهيأ للقيام بها إلى فرنسا، والدولتان كانتا تشاركان في مفاوضات الـ5+1 مع إيران. وعلى الأرجح، فإن التسريب كان يكافئ الإيرانيين أو يحفزهم على تقديم تنازلات على مائدة المفاوضات، ويعاقب في ذات الوقت "ظاهريا فقط" السعوديين بسبب ما آلت إليه مشاورات جنيف اليمنية-اليمنية من فشل. 

بالنسبة لصحفي قناة الجزيرة احمد منصور، فقد أطلقت السلطات الألمانية سراحه في 22 يونيو، أي بعد قضاء ليلتين في السجن، وذكرت وكالة الأنباء الألمانية في تبرير قرار الإفراج بأن المدعي العام الألماني في برلين قرر عدم الاستجابة لطلب السلطات المصرية بتسليمه إليها.