الثلاثاء، 3 نوفمبر 2009

الحوثية بين التأصيلات المذهبية والضرورات السياسية

د. عبد الله الفقيه

عن صحيفة الأهالي

بعد إجازة دامت أكثر من شهرين، استأنف منتدى الشيخ الأحمر نشاطه يوم الاثنين 12 أكتوبر 2009 بجلسة ترأسها الشيخ صادق الأحمر، خصصت لمناقشة «الجذور الفكرية والأبعاد التربوية للحوثية». وقد حاضر في الجلسة الأستاذ الدكتور أحمد محمد الدغَشي أستاذ أصول التربية وفلسفتها في كلية التربية بجامعة صنعاء.
وعلى هامش اللقاء الذي دام لأكثر من 3 ساعات، وزع كتاب الدغَشي المنشور حديثا والذي وصل عدد عناوينه الرئيسية والفرعية إلى أربعة على النحو التالي: «الحوثيون؛ الظاهرة الحوثية؛ دراسة منهجية شاملة.. طبيعة النشأة والتكوين.. عوامل الظهور وجدلية العلاقة بالخارج.. مشاهد المستقبل». وعاد منتدى الأحمر لمناقشة القضية مرة أخرى يوم 26 أكتوبر 2009 وكان المتحدث هذه المرة محمد يحيى عزان أحد مؤسسي منتدى الشباب المؤمن في عام 1991.

جذور المشكلة..

ينظر الدكتور الدغَشي إلى الحوثية على أنها «واحدة من أعقد التحدّيات التي تواجه النظام السياسي بل المجتمعي في اليمن» لأنه تداخل فيها الكثير من العوامل. ولا يمكن الاختلاف مع الدغشي في توصيفه للمشكلة لأن أي توصيف دون هذا، وخصوصا بعد حروب ست، يقع كما يؤكد الدغشي نفسه في محذور التبسيط للمشكلة. لكن من المهم في تشخيص المشكلة التفريق بين العوامل المباشرة والتي كانت السبب في اندلاع الجولة الأولى من الحرب وبين العوامل الثانوية التي تم استدعاؤها من سراديب التاريخ الصراعي لليمنيين لتخدم أطراف الحرب. وتكمن أهمية ذلك التفريق في أنه يحقق هدفين:
من جهة، فإن الفصل بين الأسباب المباشرة والأسباب غير المباشرة يجنب البلاد مخاطر خلق هوية مستقلة لا وجود لها أو تعميق هوية جزئية لم تكن بذلك العمق منذ البداية. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الحوثية، كما يقول محمد عزان، لم تكن خلال الجولة الأولى من الحرب (18 يونيو-10 سبتمبر 2004) بهذا العمق وهذا التعقيد، ولو أن الدولة عرفت الصراع في البداية على أنه تمرد قام به حسين الحوثي لما كانت الأمور وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم. لكن ما حدث كما يقول عزان هو أن الدولة تشعبت في تعريف الصراع واتخذت إجراءات زادت من شعبية التمرد والتفاف الناس حوله. وأبرز الإجراءات غير الموفقة للدولة والتي أشار إليها عزان في محاضرته هي حملات الاعتقال للشباب المؤمن لمجرد الاشتباه، والتي لم تستثن عزان نفسه حيث قضى أكثر من تسعة أشهر في السجن بالرغم من الخلاف الكبير بينه وبين حسين الحوثي حول الطريق الذي ينبغي أن يتبعه الشباب المؤمن. لقد أدت تلك الحملات كما يؤكد عزان إلى دفع الكثيرين من الشباب المؤمن إلى الانضمام إلى التمرد. من جهة ثانية، فإن حل الصراع يتطلب منهجية تركز على نقاط الاتفاق ولا تعمق نقاط الاختلاف. ولا يمثل الإغراق في الجوانب المذهبية والفكرية عند تعريف الصراع أو مناقشته على المستوى العام سوى إحدى الطرق المؤدية إلى تعميقه والتالي تعقيد مسألة الحل. وصحيح أن الوضع الحرج للحاكم يجعله يعرف الصراع بطريقة مغايرة لحقيقته لكن الذي لا ينبغي أن يعيب على الجميع هو أن تعريف الصراع بطريقة ارتجالية غير مدروسة يمكن أن يعمقه ويعزز من عوامل استمراره.
ويبدو أن الدكتور الدغشي والباحث عزان يتفقان على أن جزءا كبيرا من المشكلة القائمة يكمن في تلك التعاليم التي تتمسك بها فرقة من فرق الزيدية وهي «الجارودية» نسبة إلى أبي الجارود زياد ابن المنذر الذي يقول عزان إنه أول من نشرها في أوساط الزيدية. وتتمثل تلك التعاليم، والاقتباس من عزان، في القول بأن «الإمامة حق إلهي خاص بأبناء علي ابن أبي طالب من فاطمة خاصة، وليس للمجتمع أي خيار إلا القبول والتسليم بما هو مختار له» وفي القول بأن «الإمام له حق مطلق في تسيير الأمور، وأن الشورى مطلوبة ولكنها غير ملزمة له، وأن الناس ملزمون باتباعه، باعتبار أنه يمثل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه مؤيد من عند الله، يعلم ما لا يعلمون ويدرك ما لا يدركون، وإن لم يكن معصوما.»
ولعل المبدأ الأكثر إثارة للجدل منذ عام 1962 هو مبدأ حصر الولاية في البطنين والذي ظل يسبب القلق للرؤساء الجمهوريين ذوي الخلفيات غير الهاشمية وهو حال كل الرؤساء الذين حكموا الشمال من علي عبدالله السلال إلى علي عبدالله صالح. ولا شيء يبرهن على وجود ذلك القلق أكثر من أن السلطة طلبت من أتباع الزيدية الذين سعوا لتأسيس حزب الحق في عام 1991 أن يعلنوا التخلي عن مبدأ حصر الولاية بالرغم من أنه يفترض أن المسألة قد حسمت في الدستور.
وفي الوقت الذي يذهب فيه الدكتور الدغشي إلى القول إن أهم مرجعيتين للزيدية وهما العلامة بدر الدين الحوثي والعلامة مجد الدين المؤيدي لم يوقعا على الوثيقة التي تخلى فيها بعض مراجع الزيدية عن المبدأ إبان تأسيس حزب الحق، هناك من يذهب إلى أن الوثيقة التي تم التخلي فيها عن المبدأ قد كتبت بلغة ملتوية تحتمل التأويل وتتمسك بالمبدأ ولا تتخلى عنه. لكن الأستاذ حسن زيد الأمين العام لحزب الحق وأحد مؤسسيه ورئيس الدورة الحالية للقاء المشترك يقلل من أهمية عدم توقيع المؤيدي والحوثي على الوثيقة مؤكدا بأنها لم تعرض عليهما وأن النظام الأساسي لحزب الحق والذي تم مناقشته باستفاضة وبمشاركة المرجعيتين قد نص في أهدافه على «الحفاظ على النظام الجمهوري» ولم يعترض أحد على ذلك الهدف.
ويكمن الجانب الإشكالي في حصر الولاية في البطنين ليس في بعده العقائدي والروحي الذي قد يكون ثابتا نسبيا ولكن في دلالاته السياسية المتغيرة. ولو أن المبدأ كان يتصل بالعبادة مثل قول الزيدية «حي على خير العمل» في الأذان لما كان هناك مشكلة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا يتحول مبدأ حصر الولاية في البطنين إلى مشكلة اليوم في حين لم يكن مشكلة مثلا إبان حرب الستينيات التي دارت بين معسكري الملكية والجمهورية وليس بين معسكري المؤمنين بالبطنين والكافرين بهما؟ ولماذا يصبح عدم توقيع مراجع الزيدية على بيان يتخلى عن المبدأ مبررا لحرب قتل ويقتل فيها كل عام الآلاف من اليمنيين؟
لعل جوهر المشكلة الحوثية يكمن في الواقع في تعطيل النصوص الدستورية والقانونية الحاكمة للدولة والمجتمع وللعملية التعليمية والسياسية وشخصنة الدولة وتوظيف الورقة الفكرية والتربوية لأغراض سياسية، وفشل اليمنيين في تحقيق أهداف الثورة المتصلة، كما أشار الأستاذ يحيى الشامي عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني، بالتحديث والتنمية وإزالة الفوارق بين الناس. ويبدو أن ما حدث مع نهاية ستينيات القرن العشرين هو أن أنصار الإمامة وأنصار الجمهورية اتفقوا على اقتسام السلطة وتركوا للزمان تلك المسائل الفكرية والعقائدية المتصلة بالحاكمية إما لأنها لم تكن وقتها بنفس القدر من الأهمية التي هي عليه اليوم، أو لأن كل طرف أراد أن يحل المشكلة بطريقته وفي الوقت الذي يناسبه. وفي ظل فشل الأنظمة الجمهورية المتعاقبة، ويتحمل النظام القائم الجزء الأكبر من المشكلة، في تحقيق الدمج الاجتماعي وبناء الدولة المدنية ووضع آلية حقيقية للتداول السلمي للسلطة، ظلت مسألة الحاكمية مؤجلة وغير محسومة، إن لم يكن على الصعيد الدستوري فعلى صعيد الاعتقاد والممارسة.
أما ظهور الحوثية كمشكلة في هذا التوقيت بالذات فيمكن إرجاعه إلى عوامل كثيرة داخلية وخارجية والداخلية أكثر أهمية كما يقول الشيخ صادق الأحمر. فعلى الصعيد الخارجي، شهد العقدان الماضيان تطورات هائلة على صعيد الاتصالات وتكنولوجيا نقل المعلومات بالإضافة إلى العديد من التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي خلقت بيئة مواتية لإحياء الهويات الجزئية. أما على المستوى الداخلي، فقد أدت الضرورات السياسية إلى ما أسماه الأستاذ محمد الحاج الصالحي عضو مجلس النواب اللعب بنار جهنم، في إشارة إلى لعبة التوازنات والتفريخات التي تتبعها السلطة. وفيما يتصل بمبدأ حصر الولاية في البطنين، فربما يرجع السبب في إحيائه في هذا التوقيت بالذات إلى أن هناك من يعمل، ولأول مرة منذ قيام الثورة في الشمال، على تطبيق المبدأ خارج سياقه التاريخي وفي نقض لأهداف ومبادئ الثورة اليمنية، وهذه المحاولة هي التي تغذي الصراع الدائر وتصعب محاولات الحل. وإجمالا فإنه لا يمكن النظر إلى حروب صعدة الست على أنها تدور بين فريقين أحدهما مع مبدأ البطنين والآخر ضده، ولكن يمكن النظر إليها على أنها كما قال أحد السياسيين المخضرمين حرب بين طرفين يؤمن كل منهما بحصر الحاكمية في البطنين ولكنهما يختلفان في تحديد البطنين المعنيين.

المعالجات المطلوبة

برغم اتفاق الدغشي وعزان في توصيف المشكلة إلا أنهما يختلفان في الموقف من الحرب كوسيلة لحل المشكلة. ففي حين يرى الدغشي أن الحرب ليست أسلوبا للحل حتى وان تحقق الحسم العسكري الذي تتحدث عنه السلطة، فإن عزان لا يرى من حل سوى الحل العسكري.
بالنسبة للدغشي الذي يرى أن الحركة الحوثية تعبير عن مشكلة فكرية تربوية، والأخيران في الحالة اليمنية يتعلقان بالسياسة، فيؤكد فيما يتعلق بالحلول أن الحل تربوي وفكري أيضا، أي سياسي بحسب قراءة كاتب هذا المقال. وفي الوقت الذي يؤكد فيه الدغشي أن «اتجاه المصادرة أو الإلغاء للتعليم الخاص والأهلي بما فيه التعليم المذهبي غير وارد» فإنه في ذات الوقت يدعو إلى إخضاع كل المنشآت التعليمية الخاصة والأهلية لمنهج تعليمي عام يركز على «الواجبات العامة تجاه الوطن ووحدته ونظامه الجمهوري، ودين الغالبية فيه» وفيما عدا ذلك فيترك لتلك المنشئات الحرية في تعليم كل ما «يتصل بخصوصياتها المذهبية» شريطة الابتعاد عن كل ما من شأنه «التنشئة على الروح المذهبية الضيقة، المفضية إلى الكراهية والتعصب، أو إثارة الفتن، والنزعات الجاهلية (...)، أو السعي لفرض معتقداتها الخاصة بالقوة المادية، أو تصوير ذاتها بأنها وحدها الفرقة الناجية، أو الطائفة المنصورة..الخ».
وعلى العكس من الدكتور الدغشي فإن عزان لا يرى في نهاية ورقته التي قدمها لمنتدى الأحمر حلا آخر للمشكلة سوى الحل العسكري. وفي الوقت الذي يؤكد فيه أن الحل العسكري في ظل الاستراتيجية القتالية الحالية يعتبر مستحيلا، فانه يدعو إلى تغيير الإستراتيجية العسكرية للجيش لعل وعسى أن يؤدي ذلك إلى كسر شوكة الحوثيين وبحيث تتفاوض الدولة معهم من موقع قوة. وإذا كان ذلك غير ممكن فإن التصور الثاني للحل عند عزان هو «ظهور حركات شعبية تتحرك ضد الحوثي، وتنطلق بدوافع ذاتية، وتستخدم نفس الأسلوب الذي استخدمه المتمردون ضد الدولة» وهو حرب العصابات. ومع أن عزان يقول بأن تلك الحركات الشعبية لا بد أن تنطلق من دوافع ذاتية إلا أنه يدعو رغم ذلك إلى دعمها نوعيا من قبل الدولة دون أن يصحب ذلك الدعم أي تدخل من قبل الدولة في إدارة أو توجيه أو التأثير على تلك الحركات. وتبدو الحلول التي يقدمها عزان وكأنها كما يقول الأستاذ يحيى الشامي دعوة إلى حرب أهلية مفتوحة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق