الخميس، 8 أكتوبر 2009

الحرب التي لن توصل الحوثيين الى السلطة



د. عبد الله الفقيه
استاذ العلوم السياسية في جامعة صنعاء

عن صحيفة الأهالي

توفرت لطرفي الصراع الدائر في صعدة منذ عام 2004 العديد من الفرص لتحقيق نصر بلا حرب من خلال الحل السلمي للخلافات السياسية القائمة بينهما. ولا يختلف اثنان على أن اتفاق الدوحة الأول الذي تم ابرامه في عام 2007 قد وفر و ما زال يوفر أفضل الفرص لتحقيق نصر بلا حرب. لكن الطرفين ضيعا الفرص المتتالية التي اتيحت لهما لوضع نهاية سلمية لصراع الإخوة الأعداء واصرا على الإستمرار في حرب تتحول مع مرور كل يوم جديد الى دوامة تبتلع موارد البلاد البشرية والمادية والى تهديد كبير للدولة والشعب وللمجتمعين الإقليمي والدولي. وفي ظل اصرار حكومي غير منطقي على الحسم العسكري يحاول هذا المقال مناقشة اربع خصائص للحرب الدائرة يختلط فيها الجانب الموروث بالجانب المكتسب وتعمل على جعل الحل العسكري خيار غير واقعي.

حرب اثنية
يقصد بالحرب الإثنية ان الجماعات المتحاربة تختلف عن بعضها ثقافيا او دينيا او عرقيا أو غير ذلك. وبالنسبة للحرب القائمة في صعدة فان الملاحظ انها تتبلور اكثر فاكثر كحرب اثنية بين طرفين: الزيدية الهاشمية ويسميها البعض خطأ ب"الزيدية الدينية" التي يؤمن اتباعها بان حق الإمامة وحق الخروج على الحاكم في البطنين اي في احفاد الحسن والحسين انجال الإمام علي ابن ابي طالب من زوجته فاطمة بنت الرسول؛ و"الزيدية القبلية" التي تشترك مع الزيدية الهاشمية في الإيمان بمبادىء الزيدية فيما عدا مبدأ حصر الولاية والخروج في البطنين الذي تجد فيه بحكم هيمنتها على السلطة وسعيها لتوريثها من جيل الى آخر تهديدا لمصالحها. ولا يعني هذا بالضرورة ان سبب الحرب بين الطرفين هو مبدأ الولاية في البطنين او ان الحوثيين يسعون فعلا لإعادة الإمامة وحصرها في الهاشميين او ان عبد الملك الحوثي اكثر زيدية من الرئيس علي عبد الله صالح او ان علي عبد الله صالح اكثر جمهورية من عبد الملك الحوثي بقدر ما يعني ان كل طرف يعرف ذاته ويعرف الطرف الآخر كذلك من خلال ذلك الإختلاف بين الجماعتين.
ورغم ان الزيدية القبلية تقدم نفسها على انها الدولة الا ان ضعف مفهوم الدولة في العالم الثالث بشكل عام وفي اليمن بشكل خاص، وفساد النخبة الحاكمة، وشكلية المؤسسات والاليات، ووجود قطاعات واسعة بخلاف الحوثيين تطعن في مشروعية النخبة المسيطرة تجعل الدولة مجرد غطاء جديد لصراع قديم بين فئتين احتكرتا وما زالتا حتى اليوم تحتكران السلطة والصراع حولها وان اختلفت الأدوار. وفيما يتصل بالحوثيين فانهم وان كانوا يخوضون حربا ضروسا ضد السلطة الإ ان عدم تبنيهم لإي مشروع وطني او حتى سياسي واضح يبرهن على ان الطرفين يخوضان حربا مدمرة تمثل فيها الشكوك وغياب الثقة وتخيلات واعتقادات كل طرف عن الطرف الآخر وما تضيفه تطورات الحرب الى كل ذلك المغذي الرئيس للمعركة.
وتمتاز الحروب الإثنية بصعوبة الحسم ذلك لإن التمايز بين الجماعات المتحاربة، ولجوء الأطراف المتحاربة الى التأكيد على الإختلافات التي تميز كل جماعة عن الأخرى، يحول الصراع من كونه صراعا حول قيم مادية أو معنوية الى صراع حول الهوية وبالتالي حول البقاء والإستمرار. وفي حالة الحرب الدائرة في صعدة يعمل كل طرف، بهدف تعظيم الشر والخطر الذي يمثله الطرف الآخر، على استدعاء الماضي البعيد منه والقريب والآخر المختلف سواء أكان في الداخل او في الخارج، وما تحمله مخزونات الذاكرة من مظالم وتجارب اليمة. وتؤدي الخسائر البشرية الكبيرة في كل جولة من جولات الحرب، والإعتقالات العشوائية، والإبقاء على المعتقلين في السجون دون تهم او محاكمات، والزج باطراف جديدة في الصراع الى ترسيخ الأحساس بالظلم والإستهداف. ويذهب افراد كل جماعة حقا او باطلا الى التأكيد بانهم لا يحاربون الجماعة الأخرى فحسب بل يحاربون قوى أخرى تحتشد معها ضدهم. واذا كانت السلطة تقول بانها لا تحارب الحوثيين وحدهم بل تحارب ايضا ايران والكثير من الجماعات والحوزات الشيعية في العالم فان الحوثيين بدورهم يؤكدون بانهم لا يحاربون السلطة فقط بل يحاربون معها السلفيه والسعودية وامريكا واسرائيل.
غير نظامية
تتصف الحرب الدائرة في صعدة بانها حرب غير نظامية. فعلى عكس الحروب التقليدية التي يتواجه فيها جيشان أو اكثر ويتحدد النصر أو الهزيمة وفقا لنتيجة المعركة، يلجأ الحوثيون كونهم الطرف الأضعف في الحرب الدائرة من حيث القوة المادية (حجم الجيش، الأسلحة، الإمدادات...الخ) الى تكتيكات حرب العصابات. ومن أهم الأساليب التي يوظفونها، كطرف مدافع، العمل كجماعات صغيرة، زرع الألغام والكمائن، اختيار النقاط الأضعف للجيش والقيام بالهجمات المباغتة التي يختفي القائمون بها بعد تنفيذها، والعمل بشكل مستمر على استثارة الجيش ودفعه للقيام بردود فعل تؤدي الى زيادة الناقمين على السلطة وزيادة المؤيدين لهم. ويستفيد الحوثيون من خاصتين هامتين للحرب غير النظامية: الأولى هي انها لا تحصر اساليبها في الهجمات العسكرية فقط؛ والثانية هي انها لا ترتبط بنطاق جغرافي محدد. وتلعب الجغرافيا الوعرة لبعض مناطق محافظة صعدة دورا هاما في نجاح الحوثيين في حرمان السلطة من تحقيق نصر نهائي عليهم.
ومع ان الرئيس صالح تحدث مع بداية الحرب السادسة عن تغيير الجيش لإستراتيجته ليتكيف مع حرب العصابات الإ ان ذلك لا يبدو ممكن التحقيق. فالأساليب الحديثة لمواجهة حرب العصابات لا تراهن على السيطرة على اكبر عدد من المواقع او اوسع مساحة من الأرض أو قتل اكبر عدد ممكن من التمردين ولكنها تركز على كسب السكان في مناطق التمرد عن طريق تطوير البنية الأساسية ، التخلص من المسئولين الفاسدين، توفير الحماية والعيش الكريم للسكان وغير ذلك من الأساليب التي تحتاج الى الكثير من الموارد والى قدر كبير من الشمول والى حذر شديد وخصوصا في ظل الحديث عن استهداف المتمردين للمتعاونين مع الدولة.
ومن الملاحظ ان السلطة، وفي ظل صعوبة توظيف الأساليب الحديثة في مواجهة حرب العصابات، تتبع اسلوبا تقليديا في مواجهة حرب العصابات تسميه "استراتيجية الأرض المحروقة" ويقوم هذا الأسلوب، الذي يشبه الى حد كبير الأسلوب الذي استخدمه السوفييت في افغانستان، على الإستخدام المفرط للقوة وخصوصا الجوية في هدم القرى والمدن والمنشئات المائية والمزارع وقتل الأبقار والأغنام وبالتالي تهجير مئات الالاف من السكان من منازلهم. وتكمن خطورة هذا الأسلوب في انه قد يؤدي، وخصوصا في ظل ما يعرف عن اليمنيين من تمسك بمنازلهم ومزارعهم، الى عمليات قتل جماعي للمدنيين، او في احسن الأحوال الى تهجير لمئات الالاف وتعريضهم للامراض والمجاعات، وفي الحالين تزداد شعبية المتمردين بين السكان.
حرب سياسية
يتم التركيز عند الحديث عن الحرب المستعرة في صعدة على المذهب الزيدي والتشيع والإثني عشرية، والسلفية، والهاشمية، والإمامة، والنظام الجمهوري، والمشروع الإيراني الذي يسعى الى السيطرة على العالم كما يفهم من مقال الدكتور حسين فروان المنشور في القدس العربي، و تحرير فلسطين وموت امريكا واسرائيل وغير ذلك من القضايا، لكن الملاحظ ان طرفي الحرب يوظفان كل تلك العلامات واليافطات لرسم الحدود التي تفصل كل طرف وتميزه عن الآخر ولتبرير الحرب وتقديمها بشكل مقنع للمقاتلين والجمهور بشكل عام. أما اسباب الحرب الحقيقية فداخلية لا خارجية، ودنيوية لا دينية، وسياسية وليس فكرية، وتتعلق بالشراكة في "بنت الصحن." ولعل محرر مجلة الإيكونومست البريطانية لم يذهب بعيدا عندما وصف الحرب الدائرة في مقال نشر في 10 اغسطس بانها تشبه الخلافات العائلية التي يجد الوسطاء صعوبة بالغة في تحديد اسباب بدايتها.
وتعكس الحرب الدائرة اليوم نمطا تاريخيا للصراع حول السلطة سواء بين "الزيدية القبلية" من جهة و "الزيدية الهاشمية" من جهة أخرى أو بين الأسر الهاشمية ذاتها أو حتى بين الأجنحة الحزبية داخل الحزب الإشتراكي قبل الوحدة. والملاحظ من التجربة التاريخية سواء قبل الثورة أو بعدها وفي الشمال او الجنوب وقبل الوحدة أو بعدها ان هذه الحروب تندلع وتستمر بسبب غياب الثقة بين الأطراف المتصارعة وعدم استعدادها لتقديم تنازلات متبادلة. واذا كانت الحرب الدائرة اليوم تتشابه في أوجه عديدة مع حرب الستينيات في الشمال وحرب الثمانينيات في الجنوب وحرب التسعينيات بين الإشتراكي والمؤتمر، فانه لا ينبغي ان يغيب عن التحليل اوجه الإختلاف بين تلك الحروب والأخيرة قد تكون اكثر فائدة في تفسير ما يحدث اليوم وفي التنبوء بمسارات التطور المستقبلية.
وبالنسبة للغموض الكبير الذي يحيط باسباب الحرب ومحاولة كل طرف تصوير ما يحدث بشكل مختلف، فقد يعود ذلك الى الطبيعة السياسية للحرب والتي قد تؤدي في حالة الحديث الصريح عنها الى فقدان الأطراف المتصارعة للدعم الذي تحصل عليه. كما لا ينبغي ان يغيب عن التحليل حقيقة ان الحرب تدور بين طرفين يمثلان تاريخيا بيت السلطة ويعتقدان، كما تبين الممارسات بان الحكم حقا مكتسبا لهما وان دور الجماعات الأخرى هو مناصرة احد الطرفين في الحرب.
بؤرة استقطاب
تشكل حرب صعدة، بالنظر الى طبيعتها الإثنية والى الإمتدادات العرقية والمذهبية لأطرافها والى طبيعة الأوضاع الداخلية والإقليمية والدولية وطبيعة الصراعات الدائرة على المستويات الثلاثة بؤرة استقطاب للفاعلين الإقليميين والدوليين. وتمثل اتهامات السلطة لدول مثل ايران وليبيا او لجماعات شيعية مثل التيار الصدري في العراق او حزب الله في لبنان، واتهامات الحوثيين للسعودية او للطيارين العراقيين او لأمريكا مؤشرات هامة على الطبيعة الإستقطابية للحرب الدائرة. لكن تلك الإتهامات تظل حتى الان والى حد كبير مجرد اتهامات، وما ظهر منها هو ان الجانب الإيراني، رسميا كان او شعبيا، قد دخل خلال الجولة السادسة من الحرب بدعم اعلامي واضح للحوثيين وان كان لا يخلو من تردد في حين دخلت المملكة العربية السعودية بدورها بدعم اعلامي واضح للسلطة في اليمن وان بتردد ايضا. ولا يكفي الدعم الإعلامي كدليل على ان الحرب الدائرة قد اصبحت، كما يذهب بعض المحللين الغربيين، حربا بالوكالة بين ايران والسعودية وان كان الحديث عن حرب يمنية بالوكالة عن فاعلين اقليميين أو دوليين لا يبدو، على ضوء التجربة التاريخية لليمنيين ولطرفي الصراع وللمنطقة التي تدور فيها المعارك اليوم، بعيد الحدوث.
الشيىء الأكيد هو ان استمرار حرب مثل هذه في مثل هذا التوقيت وفي ظل هذه الملابسات والتداخلات والتعقيدات المحلية والإقليمية والدولية سيكون له آثاره العميقة المقصودة وغير المقصودة على كافة أوجه الحياة والتي قد تتجاوز الداخل اليمني الى المحيطين الإقليمي والدولي. ولن يكون من نتائج هذه الحرب وصول الحوثيين الى السلطة تحت اي لافتة كانت أو نجاح السلطة في اقصاء الهاشميين كشركاء تاريخيين في السلطة. ولن تنجح الحرب في تحويل شيعة ايران الى المذهب السني او في تحويل السعودية الى المذهب الشيعي. ومن المستبعد تماما ان تؤدي الحرب الى موت اسرائيل أو امريكا أو الإثنين معا. واذا كان هناك من يموت اليوم ومن سيموت غدا فهم اليمنيون سواء أكانوا شيعة أو سنة أوسلف.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق