الجمعة، 19 مارس 2010

خارطة طريق لجنوب اليمن!

د. عبد الله الفقيه

أستاذ العلوم السياسية بجامعة صنعاء

عن صحيفة الثوري

شهدت المحافظات الجنوبية والشرقية من اليمن مظاهرات كبيرة الحجم في الـ27 من فبراير 2010 بالتزامن مع بدء مؤتمر دولي حول اليمن في العاصمة السعودية الرياض. وقد أراد منظمو المظاهرة، كما يبدو، الضغط بكل قوة على دول الخليج العربي بالدرجة الأولى وعلى الدول الأخرى الممثلة في المؤتمر بدرجة أقل لوضع قضية الجنوب اليمني على قائمة الموضوعات التي يتم التفاوض حولها بين الحكومة اليمنية والمانحين الدوليين. ورفع المشاركون في المسيرات والمظاهرات والمهرجانات الخطابية الجنوبية، كما باتوا يفعلون دائما، أعلام دولة الجنوب التي اندمجت مع الشمال في عام 1990، وصور السيد علي سالم البيض الزعيم السابق لجنوب اليمن وأول نائب رئيس للجمهورية اليمنية (1990-1994)، و طالبوا حسب تعبيرهم بـ"فك الارتباط" بين الشمال والجنوب. وقد ردت الحكومة اليمنية على قادة الحراك بتصعيد مقابل في توظيف الأدوات القمعية، وقد انتهى اليوم العصيب لحسن الحظ دون خسائر في الأرواح، واقتصر الأمر وعلى غير العادة على جرح ثلاثة أشخاص. ويسعى هذا المقال، على ضوء التوتر المتزايد الذي تشهده المحافظات الجنوبية، إلى التعريف بإيجاز بما يحدث في جنوب اليمن، ثم يستعرض بعد ذلك الخطوات المطلوب القيام بها من قبل أطراف المشكلة بغرض التهدئة والتهيئة لحوار جاد حول المشكلات القائمة.

مشاكل الجنوب

يمكن النظر إلى ما يحدث في المحافظات الجنوبية والشرقية من اليمن من ثلاث زوايا. من جهة، هناك مواطنون جنوبيون يشعرون بأن حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية العادلة تعرضت للاستلاب منذ حرب عام 1994 التي استبدلت من وجهة نظرهم وحدة اليمن الطوعية السلمية بوحدة الغلبة والضم والإلحاق. وتعود جذور هذا الشعور العميق بالغبن في أوساط اليمنيين الجنوبيين إلى الحرب التي اندلعت في صيف ذلك العام وما أسفرت عنه تلك الحرب من نتائج وما لحق بالجنوب والجنوبيين جرائها من نهب وسلب وتهميش متعدد الأوجه. وقليلون جدا، سواء في الشمال أو في الجنوب، يمكن ان ينكروا المظالم التي يتحدث عنها الجنوبيون أو يستكثرون عليهم ما يطالبون به سواء تعلقت المطالب بالتمثيل السياسي أو بالشراكة في ثروات البلاد أو في حقهم بالتمتع بدرجة معينة من الاستقلال في إدارة شئونهم في إطار دولة الوحدة.

من جهة ثانية، هناك من يستغل معاناة الجنوبيين والظروف الصعبة التي يمرون بها ويحاول الدفع بالأمور إلى الهاوية عن طريق تحميل الوحدة اليمنية أخطاء النظام القائم وهو بالتالي يحرض الناس على طرح مطالب الانفصال ويرفع التوقعات غير القابلة للتحقق في أوساط الناس ويثير مشاعر الحقد والكراهية بين أبناء الشعب الواحد ويحرض على العنف والتخريب واستهداف المواطنين البسطاء الذين ينتمون إلى مناطق الشمال، ووصل الأمر بهذا الفريق إلى ممارسة الفرز المناطقي حتى وان أستدعى الأمر نبش قبور الموتى. وربما كان الهدف الحقيقي لهذا الفريق هو ممارسة الضغط على النظام اليمني ودفعه لتقديم تنازلات، لكن الخوف هو أن تخرج الأمور عن السيطرة وان يصبح الحقد الذي يتم بثه بين أبناء البلد الواحد فجوة واسعة يصعب ردمها.

من جهة ثالثة، هناك نظام يصب الزيت على النار تارة من خلال المكابرة وإنكار المشاكل القائمة في الجنوب وفي البلاد ككل، وأخرى من خلال رفض الاعتراف بالمطالب الحقوقية المشروعة التي يطرحها الحراك والجنوبيون بشكل عام، وثالثة من خلال الإصرار على قمع الحركة الاحتجاجية الواسعة واعتقال قادة الحراك وغير ذلك من الإجراءات والتصرفات التي تزيد من تفاقم المشاكل. ويخشى أن يؤدي تصاعد العنف اللفظي والمادي الذي يمارسه النظام وسقوط المزيد من القتلى والجرحى في المواجهات التي عادة ما تدور بين الحكومة والحراك منذ منتصف 2007 إلى تصليب المواقف والى تشدد الموقف الجنوبي المطالب بالإنفصال.

حقائق يتم تجاهلها

تتجاهل أطراف الصراع الدائر بشأن جنوب اليمن العديد من الحقائق المتصلة بالسياسة والجغرافيا والتاريخ الوطني والتي سيكون من الصعب تجاوزها اذا أرادت تلك الأطراف الوصول إلى حل سلمي للمشاكل وتجنب دورات أخرى من الصراع العنيف. أما الحقيقية الأولى، فهي أن الوحدة اليمنية تمثل عامل استقرار في جنوب الجزيرة العربية وهذا الاستقرار، الذي يمثل مصلحة يمنية وإقليمية ودولية، لا يمكن الحفاظ عليه بدون الوحدة اليمنية. وإذا كانت سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي قد شهدت أقصى درجات التفرقة والتجزئة بين اليمنيين، فإنها قد شهدت أيضا وبالتزامن أقصى درجات غياب الاستقرار سواء داخل كل شطر أو في العلاقة بين الشطرين. ولا يمكن اليوم مثلا الحديث عن ظاهرة الإرهاب في اليمن دون ربط جذورها بالصراع بين شطري اليمن خلال فترة التجزئة والحرب الباردة.

ويتفرع عن الحقيقية الأولى حقيقة ثانية، وهي ان الوحدة اليمنية ذاتها لا يمكن الحفاظ عليها سوى بالشراكة في الثروة والسلطة وان محاولة أي طرف من الأطراف الاستئثار بالسلطة والثروة تمثل تهديدا كبيرا للوحدة وللسلميين الإقليمي والدولي لأنها غالبا ما تقود، كما تبين تجارب التوحيد في التاريخ اليمني، إلى التجزئة والتشرذم وغياب الأمن والاستقرار.

ويترتب على الحقيقة الثانية حقيقة ثالثة وهي أنه لا وحدة بدون ديمقراطية ولا ديمقراطية في ظل الانفصال. ويرجع الترابط الوثيق بين الوحدة والديمقراطية إلى أن الشراكة التي يتطلبها استمرار الوحدة لا يمكن أن تتحقق الا من خلال نظام ديمقراطي حقيقي واضح المعالم. ويصعب تحقيق الديمقراطية في ظل الانفصال في الحالة اليمنية لان التجزئة تقود إلى حالة من التربص بين الشطرين والى حالة من الإقصاء تتناقض مع الديمقراطية.

أما الحقيقة الرابعة، فهي أن توجه النظام القائم وفي ظل الظروف الصعبة التي تمر بها اليمن، إلى توريث السلطة يشكل الخطر الرئيس على وحدة البلاد لان التوريث يمثل أقصى درجات الاستئثار والاحتكار للسلطة والثروة ويسد بالتالي آفاق التغيير السلمي ويشيع اليأس والإحباط بين مختلف القوى على الساحة ويدفع بها إلى العمل على تجزئة البلاد.

وتتمثل الحقيقة الخامسة في انه لا يمكن في الوقت الحالي وفي الحالة اليمنية بالتحديد فرض الوحدة أو الانفصال أو المحافظة على أي منهما بالقوة، فقد تحققت الوحدة في عام 1990 بالوسائل السلمية كتعبير عن حاجة حقيقية لدى اليمنيين للتوحد، وفشلت محاولة الانفصال بالقوة في عام 1994، وتبين الأحداث الجارية في المحافظات الجنوبية والشرقية انه لا يمكن المحافظة على الوحدة بالقوة، وان ما يمكن تحقيقه في أحسن الأحوال هو حالة من عدم الاستقرار تهدد اليمنيين وجيرانهم.

أما الحقيقة السادسة فهي أنه "لا تنمية بدون وحدة ولا وحدة بدون تنمية." ويرجع الترابط بين الانفصال وغياب التنمية وبين الوحدة والتنمية إلى الطريقة التي تتوزع بها الموارد المادية والبشرية بين الشطرين. فالجنوب يمثل تقريبا 80% من مساحة اليمن الموحد في حين لا يمثل سكانه سوى 20% من إجمالي السكان، وعلى العكس من ذلك فإن مساحة الشمال لا تمثل سوى 20% من مساحة البلاد ككل في حين يمثل سكانه 80% من إجمالي السكان. وفي حين يتركز السكان في الشمال حيث تغيب الموارد وفرص النمو وتتعاظم المشاكل الناتجة عن الفجوة بين السكان والموارد، تتركز الموارد وفرص النمو الاقتصادي في الجنوب حيث يقل السكان. وقد عاش اليمنيون خلال القرنين الماضيين نتيجة للإختلالات القائمة كشعب واحد بنظامين، وفيما عدا عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي فان اليمنيين تنقلوا وتزاوجوا وتمتعوا بحقوق متساوية في أي من الشطرين ودون الحاجة حتى إلى بطاقة هوية أو جواز سفر. ووصل جنوبيون في الشمال وشماليون في الجنوب إلى أعلى مستويات السلطة. وإذا كانت الإختلالات في توزيع الموارد تجعل من الصعب تحقيق التنمية في أي من الشطرين بمفرده، فإن عجز دولة الوحدة عن تحقيق التنمية يفقد الوحدة أهم مبرراتها.

الخطوات المطلوبة

يتطلب الخروج من الوضع الراهن في الجنوب قيام الحراك والحكومة والاثنين معا ببعض الخطوات العاجلة. فبالنسبة لما هو مطلوب من الحراك فيتمثل في أمرين: الأول هو أن يوحد صفوفه ويسمي ممثليه إلى الحوار مع السلطة لان الحراك بشكله الحالي ليس أكثر من مجالس وعشائر وتيارات متنافسة يدعي كل منها تمثيل الجنوب والجنوبيين ولكن يصعب على أي كان الدخول في حوار معها. أما الأمر الثاني، فهو أن يعطي الحراك فرصة حقيقية للحوار المفتوح وغير المشروط والذي يسعى لحل المشاكل في إطار دولة الوحدة و يتيح طرح كل المشاكل والخيارات بما في ذلك خيار إعادة النظر في شكل الدولة اليمنية أو شكل النظام السياسي.

أما الخطوات المطلوب القيام بها من قبل الحكومة اليمنية، فتتمثل أولا وقبل كل شيء في القبول بمبدأ الحوار مع ممثلي الحراك كمدخل لحل الإشكالات القائمة في إطار دولة الوحدة ودون أي اشتراطات مسبقة. وعلى الحكومة، ثانيا، أن تقبل برعاية خليجية، وربما دولية أيضا، للحوار لتكون تلك الرعاية بمثابة ضامن لبدء الحوار واستمراره وتحقيق أهدافه والتزام الأطراف المتحاورة بتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه. والمقصود بالرعاية، خليجية كانت أو دولية، ليس أن يتولى الراعون اتخاذ القرارات أو إيجاد الحلول للمشاكل القائمة بالنيابة عن اليمنيين ولكن المقصود هو حضور الخارج كمراقب وكوسيط يقرب بين وجهات النظر حين تتباعد ويدعم ويضمن تنفيذ ما يتم التوصل إليه من قرارات واتفاقات. ولا ينبغي على الداخل القلق من الدور الخارجي لان الوحدة اليمنية، كما سبق الإشارة إلى ذلك، تمثل مصلحة لجميع الأطراف. ورغم ان الدور الخارجي قد يحمل معه بعض المضاعفات الجانبية الإ ان وجود دور خارجي لا يمثل مجرد خيار بل هو مكون أساسي لأي حل للمشكلة اليمنية. وتأتي الحاجة إلى الدور الخارجي نابعة من الوضع الذي وصلت إليه العلاقة بين القوى اليمنية على الصعيد الداخلي، وتحديدا إلى افتقاد القوى السياسية لأي قدر من الثقة في بعضها البعض من جهة، والى اختلال توازن القوة فيما بينها من جهة أخرى.

وهناك أخيرا خطوات مطلوب القيام بها من قبل الحكومة اليمنية والحراك على السواء. وأول تلك الخطوات هي قبول الطرفين بهدنة لمدة لا تقل مدتها عن 6 أشهر تتوقف خلالها كافة الأنشطة التي يقوم بها الحراك بما في ذلك المظاهرات والإعتصامات ورفع الأعلام والصور الشطرية والاعتداء على المواطنين الأبرياء، وتتوقف الحكومة اليمنية بدورها عن ممارسة كافة أعمال القمع والاستفزاز بما في ذلك الإستحداثات العسكرية والأمنية والاعتقالات وتطلق المعتقلين على ذمة الحراك. كما ان على الطرفين إيقاف الحملات الإعلامية وكافة أشكال الدعاية وبما يكفل تعزيز الثقة المتبادلة ويجنب الطرفين المزيد من التدهور في العلاقة بينهما.

الخيارات البديلة

ليس هناك ما يشير إلى أن مشاكل جنوب اليمن ستنتهي بمرور الزمن ومن تلقاء نفسها، فما يحدث منذ أن بدأ الحراك في منتصف عام 2007 هو أن الوضع يزداد سوءا يوما بعد آخر. وليس هناك ما يدل على أن استهداف الحراك لأبناء الشمال من جنود وعمال وأصحاب بسطات ودكاكين وجنود بالقتل أو إحراق المحلات التجارية أو غير ذلك من التصرفات يمكن ان يحرر الجنوب من أبناء الشمال. كما انه ليس هناك ما يدل على أن ممارسة السلطة وأجهزتها لعمليات القتل والاعتقال الواسع لقادة الحراك والمشاركين فيه يمكن ان يخلق حالة من الرضا عن الوحدة في أوساط الجنوبيين. ويخشى أن يؤدي استمرار العنف وتصاعد وتيرته إلى وصول الوضع إلى حالة يصعب معها الحفاظ على تماسك الدولة اليمنية ومنعها من الانهيار سياسيا واقتصاديا واجتماعيا مع ما يمكن ان يترتب على ذلك من تمكين للقاعدة والجماعات المقربة منها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق