الأربعاء، 6 مايو 2009

الاقتصاد السياسي والديمقراطية في العالم العربي

يعرف الاقتصاد السياسي بأنه "العلاقة بين العمليات السياسية والاقتصادية." وتقوم دراسات الاقتصاد السياسي على افتراض ان المشاكل الاجتماعية ترتبط ببعضها البعض وأنه لا يمكن فهم ظاهرة بمعزل عن الظواهر الأخرى.
الأوضاع الاقتصادية
ذهب بعض المنظرين بعد الحرب العالمية الثانية إلى القول بأن (النمو الاقتصادي) سيقود حتما إلى تحديث اجتماعي، ثقافي، وسياسي (مع تعريف التحديث السياسي بانه تبني نظام ديمقراطي في الحكم). في نهاية الخمسينيات كتب سيمور مارتن ليبست مقالا بعوان "بعض الشروط الاجتماعية للديمقراطية" وذهب فيه الى وجود علاقة طردية بين الحالة الاقتصادية لامة ما وبين احتمال الحفاظ على الديمقراطية فيها. ولإثبات صحة هذه المقولة، استخدم ليبست الثروة، مستوى التصنيع، مستوى التعليم.
بالنسبة للثروة فقد قاسها معتمدا على:
1- الدخل السنوي للفرد،
2- معدل عدد الأشخاص إلى عدد السيارات،
3- معدل عدد الأشخاص إلى عدد الأطباء،
4- معدل عدد الأشخاص إلى عدد أجهزة الراديو،
5- معدل عدد الأشخاص إلى عدد التلفونات،
6- معدل عدد الأشخاص إلى عدد الصحف.
أما التصنيع فقد قاسه ليبست معتمدا على
1- عدد الذكور العاملين في الزراعة،
2- معدل الاستخدام الفردي للطاقة،
3- التحضر (مقاس بتلك النسبة من السكان التي تعيش في مراكز يزيد عدد سكانها عن 20000 نسمة)،
4-التعليم مقاسا بمعدلات القيد في المدارس. وأولى ليبست أهمية قصوى للتعليم معتبرا إياه العامل الأكثر أهمية في الحفاظ على الديمقراطية. وإذا لم يكن التعليم شرطا كافيا للديمقراطية، برأي ليبست، فأنه يقترب من كونه شرطا ضروريا لا يمكن للديمقراطية في مجتمع ما ان تستمر بدونه.
وعند تطبيق هذا النموذج لتفسير غياب الديمقراطية في الوطن العربي يلاحظ مع اختلاف في الدرجة من بلد إلى آخر أن معظم الدول تتمتع بمؤشرات اجتماعية واقتصادية وثقافية مشابهة لتلك الدول التي بدأت في بناء أنظمة ديمقراطية. ويحتوي الجدول المرافق على بعض المؤشرات الاقتصادية-الاجتماعية لعدة دول بما في ذلك مصر والأردن واليمن مصحوبة بمؤشرات الحريات السياسية والاقتصادية.
بنظرة سريعة على الجدول يلاحظ قدر كبير من عدم التوافق بين الحريات السياسية ومستوى التطور التنمية بأبعادها المختلفة كما يظهرها فهرس التنمية البشرية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
فكما يوضح الجدول فأن ترتيب الدولة على فهرس الديمقراطية لا يقابله بالضرورة ترتيب مواز على فهرس التنمية البشرية والذي يعتمد على معدل الدخل الفردي السنوي، التعليم (مقاسا بعدد السنوات التي قضاها الفرد في المدرسة)، ومعدل السنوات التي يتوقع ان يعيشها الفرد. فالبحرين ومصر واليمن كلها حصلت على تقدير"ليس حرا من بيت الحرية" بينما احتلت المواقع 39 ، 115، و 144 على فهرس التنمية البشرية الصادر عن برنامج التنمية التابع للامم المتحدة. بل ان موقع البحرين (ليست حرة وفقا لبيت الحرية) على الفهرس (39) أفضل بكثير من مواقع الأردن(99) (حرة جزئيا) ، ماليزيا(59)(حرة جزئيا) ، ونامبيا (122). وتبدو حالة نامبيا أكثر تعبيرا عن التفاوت بين مؤشرات الحرية من جانب، والمؤشرات الاقتصادية الاجتماعية من جانب أخر. فبرغم موقعها المتأخر على فهرس التنمية البشرية (122) فان تقديرها وفقا لفهرس الحرية (حر).
ومع التسليم بالطرق المختلفة التي يمكن ان يقرا بها الجدول فأن الأمر الواضح هو ان عدم الاتساق يثير الكثير من الشكوك عن طبيعة العلاقة بين المؤشرات الاقتصادية الاجتماعية ونظيراتها المتصلة بالحرية والديمقراطية وعن قدرة المؤشرات الاقتصادية-الاجتماعية على تقديم تفسير مقتع لغياب (او وجود) الديمقراطية في دولة ما.
خصائص الاقتصاد السياسي
وتحول انتباه نظرية الحداثة من الظروف الاقتصادية والاجتماعية إلى خصائص الاقتصاد السياسي في هذه الدول. في هذا السياق، ظهر نموذج الدولة الريعية والتي يمكن تعريفها بأنها الدولة التي تعتمد في استمرارها على موارد خارجية المصدر، سواء أكانت تلك الموارد العائدات الدولية من مبيعات النفط، المساعدات الدولية، او تحويلات المغتربين من أبناء الدولة أو مزيج من بعض أو كل هذه المصادر. النقطة الأكثر أهمية هنا هي ما إذا كانت الدولة تعتمد في استمرارها كوحدة سياسية على موارد ينتجها مواطنيها (كالضرائب مثلا) أم على موارد مصدرها مستقل عن أولئك المواطنين.
وفي اطار هذا النموذج تم التفريق بين الدولة الريعية من جهة والاقتصاد الريعي من جهة اخرى وذلك على اساس
1- انه في الدولة الريعية (كالعربية السعودية)، وعلى عكس الاقتصاد الريعي (كذلك السائد في الاردن) تتجه الموارد الى الدولة مباشرة.
2- تشكل عائدات المغتربين في الاقتصاد الريعي مصدر هام من مصادر الدخل في حين ان المصدر الرئيسي للدخل في الدولة الريعية يأتي عن طريق تصدير المواد الخام.
3-في الاقتصاد الريعي يشكل الريع كنسبة (مطلقة أو نسبية) من الدخل القومي مستوى اقل من تلك التي يسجلها في الدولة الريعية.

السؤال هنا: كيف تؤثر هذه الأوضاع الاقتصادية على المؤسسات والسلوك السياسي وخصوصا فيما يتعلق بنوعية النظام السياسي وما إذا كان بشكل عام ديمقراطيا أم استبداديا؟

يقدم منظروا الاقتصاد السياسي تفسيرا لغياب الديمقراطية في الشرق الأوسط يرتكز على الاتي:
1- تتمتع الدولة الريعية ( وبدرجة اقل الاقتصاد الريعي) ببعض الاستقلال عن مواطنيها بحكم اعتمادها على مصادر خارجية للدخل. هذا الاستقلال يتم تفسيره على انه مادامت الدولة لا تثقل كاهل المواطنين بالضرائب، فأن المواطنين لا يهتمون كثيرا ببناء مؤسسات ديمقراطية تمكنهم من المشاركة في صنع السياسة العامة ومن محاسبة المسئولين العاميين. وتلخص هذه الفكرة بتحوير لقول قديم يلخص تطور النظام الديمقراطي بحيث يصبح القول "لا ضرائب بدون تمثيل" في السياق الشرق الاوسطي "لا ضرائب، لا تمثيل."
2- تستخدم الدولة الريعية (وبدرجة اقل الاقتصاد الريعي) الموارد الخارجية في تقديم الخدمات المجانية وفي خلق نظام لدعم السلع الخدمات وفي تحقيق مطالب البعض وتوزيع المكرمات على البعض الاخر. يتم ذلك كله في مقابل الولاء او على الاقل التحييد السياسي للمواطنين.
3- يؤدي تدهور الريع، والذي قد يحدث لجملة من الاسباب، الى تدهور مقابل في قدرة الدولة على الحفاظ على المستوى السابق من توزيع المكرمات ودعم الخدمات، وبالتالي تتدهور الشرعية السياسية للحكام في اعين المواطنين.
4- يصبح التغيير السياسي (سواء تمثل في الإصلاح أو الانتقال إلى الديمقراطية) ممكنا عندما تبدأ الدولة بتحويل نفسها من كيان يعتمد على الريع إلى كيان يعتمد على فرض وتحصيل الضرائب والرسوم.
تطبيق نموذج الدولة الريعية في العالم العربي
1- يمكن تقسيم الدول العربية وفقا لاعتمادها على الريع إلى قسمين: دول ريعية، وهي تلك الدول التي مثل فيها الريع (وخصوصا ذلك الناتج من بيع المواد الأولية) الجزء الاهم، ان لم يكن الوحيد، للدخل القومي. هذه الدول هي السعودية، الكويت، قطر، البحرين، الامارات، ليبيا، ثم العراق.
النوع الثاني من الدول هو تلك المجموعة التي يمكن وصفها بانها اقرب ما تكون الى اقتصاد ريعي منها إلى دول ريعية. ويندرج تحت هذا النوع من الدول كل من مصر واليمن الشمالي والسودان وسوريا وعمان واليمن الجنوبي والى حد ما دول المغرب العربي.
اتصف اقتصاد هذه الدول خلال فترة الطفرة النفطية بالاعتماد بشكل رئيسي على الريع الذي حصلت عليه دول النوع الأول وخصوصا بعد حرب 1973 التي أدت إلى قفز أسعار النفط بعد الحرب إلى أربعة أضعاف ما كنت عليه قبل الحرب. ذلك الريع اتخذ شكلين: عائدات المغتربين (وعل وجه الخصوص أولئك الذين توجهوا إلى دول النوع الأول)، أو المساعدات التي تدفقت من الخارج (وعلى وجه الخصوص من دول النوع الأول) إما لأغراض التنمية او لتمكينها من الصمود في مواجهة العدو (الدعم الخليجي لسوريا والاردن ومصر).
هذا التقسيم للدول العربية قابله تقسيم مواز وان كان يصعب قياسه للدول العربية من حيث هامش الحرية، فالدول الريعية بشكل عام اتصفت بأنظمة استبدادية ضيقت الخناق على المواطنين ومارست كل أشكال العسف، بينما اتصفت الدول ذات الاقتصاد الريعي بأنظمة اقل استبدادا. هذا التقسيم اذا يصب في اتجاه تدعيم النموذج لولا التنوع في درجة الاستبداد داخل كل نوع من الدول على حده. اختلف النظام السعودي مثلا عن الأنظمة الأخرى في الخليج، بل ان الكويت وهي دولة يفترض وفقا للنموذج أن تكون من الأكثر استبدادا (دولة ريعية من الدرجة الأولى مثلها مثل السعودية) مثلت (خلافا للتوقع) الدولة الأكثر ليبرالية داخل النوع الأول.
وتأتي الحالة السورية لتعرض مثلا مقابلا. الخصائص الاقتصادية للدولة السورية تجعلها مؤهلة لان تكون أكثر ليبرالية من دول النوع الأول، لكن ذلك لم يتحقق حيث مثل النظام السوري أنموذجا اقرب إلى دول النوع الأول منه إلى دول النوع الثاني. اما الحالة المصرية، فتمثل حالة ثالثة لا ينطبق عليها تماما نموذج الريع.
لم تكن الدولة المصرية في عهد السادات مؤهلة وفقا لنظرية الريع لحدوث تغيير سياسي في الزمان الذي حدث خلاله. ليس ذلك فحسب، بل ان قرار السادات في عام 1976 (في ذروة الطفرة النفطية) بتبني نظام ليبرالي يعتمد على التعدد الحزبي يصعب شرحه بتحليل تدفق الريع.
2- فصلت النقطة السابقة الوضع خلال فترة الطفرة النفطية التي لم تدم طويلا وبرغم النقد الذي وجه الى التفسير الذي يقدمه نموذج الدولة او الاقتصاد الريعي والمعتمد على التنوع والاستثناء الا ان قوته على التفسير لم تتأثر كثيرا. بكلمات اخرى، مازلت شروحاته لفترة المد النفطي تتميز بقوة غير عادية. لكن ماذا عن الجزء المتعلق باحتمال حدوث التغيير السياسي نتيجة تدهور الريع. لقد جاءت ثمانينيات القرن العشرين بتغييرات داخلية وخارجية كان من نتائجها تراجع اسعار النفط في الاسواق العالمية وهو وضع اثر وان بدرجات مختلفة على الدول الريعية والدول ذات الاقتصاد الريعي. على انه يجدر الاشارة الى ان الدول ذات الاقتصاد الريعي كانت الاكثر تأثرا. من جهة، ادى تدهور الريع الى تدهور في المعونات التي كانت تتلقاها من الدول النفطية. من جهة ثانية ادى تدهور الريع الى تدهور في عائدات ابنائها المغتربين. وفقا لنظرية تدهور الريع فأن التحول نحو الديمقراطية يرتبط بتدهور الريع وبتحول الدولة من مؤسسة تعتمد على الريع الى أخرى تعتمد على جباية الضرائب والرسوم.
جاءت التطورات السياسية في الثمانينيات بمزيج من التطورات الا ان ابرزها هو محاولة الدولة التعايش مع تدهور العائد الريعي دون احداث تحول حقيقي في الجانبين الاقتصادي والسياسي. هناك دول حاولت، مرغمة بضغوط المنظمات النقدية الدولية، تنفيذ برامج اصلاح اقتصادي وتحرير الاسعار ووقف المعونات على السلع والخدمات الا ان مشاريع التحول تلك لم تكتمل. على الصعيد السياسي ادى التدهور الاقتصادي الى بعض التغييرات السياسية. الاردن، مثلا، بدأ عملية اصلاح سياسي في اواخر الثمانينيات في ظل ظروف اقتصادية صعبة ناتجة عن تدهور الريع الذي مثل الحقنة الكبيرة للاقتصاد الوطني خلال سبعينيات القرن العشرين. وفي اليمن الشمالي واليمن الجنوبي ادى تدهور الريع الى المسارعة بالوحدة وبتبني الديمقراطية كنظام سياسي للدولة الجديدة. وحدث شي مماثل في الجزائر.
باختصار، يلاحظ ان نظرية الريع تقدم تفسيرا معقولا لقرارات التحول نحو الديمقراطية خلال النصف الثاني من ثمانينيات العشرين. فربط الحزام اقتصاديا وهو امر فرض فرضا من الخارج كان مصحوبا باصلاح سياسي او بتوجه نحو الدمقرطة كما حدث في الجزائر واليمنيين. الاشكالية التي تبرز هنا هي إهمال النظرية للفاعلين السياسيين داخل الدولة وللطرق التي يستخدمونها للتكيف او الالتفاف على القوى الاقتصادية. النظام السعودي مثلا وقد بدأ يعاني وطئة الريع لجأ الى تحميل العبأ على ملايين الاجانب العاملين في المملكة، والذين لايتمتعون بأي حقوق سياسية، بدلا من تحميلها للشعب.
3. في الوقت الذي تقدم فيه نظرية الريع تفسيرا معقولا لقرارات الاصلاح السياسي عن طريق ربطها بتدهور الريع فانها تفشل في تفسير التراجع عن الاصلاح السياسي في ظل تدهور اشد للريع. لم يكن الاقتصاد الجزائري في عام 1992 (عام الانقضاض على الدمقرطة) افضل مما كان عليه في عام في نهاية ثمانينيات القرن العشرين حينما تبنى النظام السياسي عملية الديمقرطة. كذلك الحال في الاردن واليمن. مرة ثانية، هناك عوامل وقوى تحدد استجابة النظام السياسي لتغير اقتصادي كانخفاض الريع اوربما للتدهور الاقتصادي بشكل عام حيث ان النظام قد يلجأ الى اعطاء المواطنين مزيدا من الحريات او يسلبهم بعض ما يتمتعون به اعتمادا على عوامل وقوى أخرى. أن نظرية القول بأن الاصلاح السياسي ربما كان مرتبطا بتحول الدولة من الريع الى الجباية، من وجهة نظر حريق على أهميته يصعب برهنته بالاعتماد على التجارب المحدودة لدول الشرق الأوسط.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق