الخميس، 13 يناير 2011

التعديلات.. بين التمديد والتأبيد

د. صالح سميع
ورقة مقدمة لمنتدى الشيخ الأحمر


أولا: إطلالة على المشهد المعاش

لا شك أن السلطة السياسية في النظم السياسية والدستورية العربية ما زالت بيد رأس النظام بصرف النظر عن الصيغ والأشكال التي تتخذها هذه النظم (جمهورية، ملكية، سلطانية) وهذا الوضع المعاش عربيا لا يعني إلا حقيقة واحدة، وهي أن المجتمع السياسي العربي ما زال على رأس قائمة القلة القليلة من دول العام المعاصر المتعثرة في الحل السلمي لمشكلة السلطة إذا ما زالت السلطة، ومفاصل القوة بيد فرد واحد هو مدارها، وقطب رحاها بغض النظر عن الصفات والكنى التي تلحق به، أي بصرف النظر عن صفة الحاكم الفرد ملكا كان أو سلطنا أو رئيس جمهورية.

وهذه الحقيقة تقود إلى كشف بديهي، واستنتاج منطقي يمثلا حقيقة معاشة وهي أن المجتمع السياسي العربي كل نخبه السياسية لم يرتق بعد إلى المستوى الذي يمكنه من الانتزاع السلمي للسلطة السياسية، من يد المستبد الفرد إلى يد الأمة في مجموعها، وجعلها دولا بين فرقاء الفعل السياسي داخل الأمة تتناوب على إدارة سلطة الدولة، وتتنافس على استباق الخيرات فيها وفق مجموعة من النظم والآليات والأدوات والوسائل المحققة لهذه الغاية.

ثانيا: أمران أحلاهما مر

إذا كان الوصف السابق يصدق على حال الواقع العربي بصفة عامة، أيا كان شكل النظام الدستوري، ملكيا أو جمهوريا، أو سلطانيا، فإن واقع الحال الراهن- وللأسف الشديد- يشهد بأن العرب الواقعين تحت أنظمة وسم شكلها بالجمهوري هم في الدرك الأسفل من التخلف والانحطاط وظلمة الأوضاع وقتامتها، لأسباب سنذكر أهمها فيما بعد.

إن الإشكال الكبير هو في النظم العربية ذات الشكل الجمهوري، أما ذات الشكل الملكي أو السلطاني فالوضع فيها أقل تعقيدا من زاويتين مهمتين: شرعية النظام، وإمكان إصلاحه بالتدرج وبتكلفة أقل، وذلك عند توفر الإراذة السياسية بالنسبة لمن يقف على رأس الدولة الملكية أو السلطانية، فالشرعية هي شرعية أسرة مالكة استمدتها من التاريخ في لحظة معينة، ومثلت قبولا عند الناس لحظة نشوئها وسلموا بمقتضاها، وعبر تاريخ هذه الشرعية صارت علاقة المجتمع السياسي بها بين مد وجزر، إلا أنه ومع هذا الجزر ظل القبول والتسليم هو السائد حتى هذه اللحظة وأن المد لم يتحول بعد إلى جزر ثائر عنيف.

أما عن كون التغيير في النظام وإصلاحه يكون أقل كلفة في الشكل الملكي أو السلطاني: فلأن رأس السلطة الحاكمة يمكنه تجديد شرعيته بالتدرج الحكيم في إصلاح النظام وتغييره ونقله من طور إلى طور في ظل الثبات، حتى يخرج هو وتخرج معه السلطة من دائرة القبض الفردي المطلق عند البدء إلى دائرة البسط الجماعي الكامل في المنتهى.

وعلى عكس حال الشكل الجمهوري للنظم الدستورية العربية، فالأصل الظاهر أن الحكم فيه يستمد شرعيته من جمهور المجتمع السياسي، حيث ينتدب هذا الأخير من بين نخبة من يتحمل مسئولية إدارة الحكم لمدة زمنية معلومة تحت رقابة من انتدبهم ثم يعود المنتدبون إلى المنتدبين بعد انقضائها، لمسائلتهم، وهنا يتحدد مصير رجال الحكم في مختلف مستوياته بناءا على نتيجة المساءلة السياسية عبر انتخابات نزيهة وخالية من أي تزوير مادي أو معنوي: فإن أحسنوا وأجادوا، أعادوا لهم الكرة، وإن خيبوا ظنه بسوء إدارة شؤون الدولة، وبفشلهم في إنجاز ما وعدوا جمهور ناخبيهم كلا أو بعضا، وانعكس هذا وذاك على مستوى حياة الناس في كل وجوهها، عاقهم بالعزل، وأبدلهم بغيرهم، ثم لا يكونوا أمثالهم.

وإذا كان ذلك هو الأصل في الأنظمة السياسية العربية ذات الشكل الجمهوري فإن واقع الحال المعاش يدل على انفصام نكد بين الشكل والمضمون.

فعلى مستوى الشكل: تقضي دساتير الجمهوريات العربية في مجملها بأن نظامها جمهوري، وأن الشعب هو صاحب السيادة لا شريك له فيها من البشر، وأنه يمارس مقتضاها إما بصورة مباشرة عبر ما يسمى بالاستفتاءات، أو غير مباشرة بوسيلة تسمى الانتخابات، كما تقضي بقيام النظام السياسي على أساس التبادل السلمي للسلطة، وأن السلطة أصبحت وأمست وغدت دولا بين النخب السياسية، وأن آلية هذه النخب هي الأحزاب والتنظيمات السياسية معزرة ببقية مؤسسات المجتمع المدني، كما أن الكثير من هذه الدساتير الجمهورية قضت بمنع الجمهور السياسية من تجديد الثقة لمن سبق له أن نال ثقته في تولي أعلى منصب في الدولة وهو رئاسة الجمهورية لفترتين زمنيتين متتاليتين، كما راعت هذه الدساتير مقتضى الحكمة السياسية في توزيع وظائف الدولة بين سلطات ثلاث: إحداها للتشريع والرقابة، وثانيها للتنفيذ، وثالثها للقضاء، وفي تأسيس هذا التوزيع الثلاثي على أساس مبدأ الفصل بين السلطات على نحو ضامن للتدافع المانع من طغيان أي من السلطات الثلاث، ومن استبدادها بأمر السلطتين الأخريين على نحو يقود إلى إفراغ النظام الجمهوري وكل آلياته العملية في تداول السلطة من مضامينها.

أما على مستوى المضمون فإن الشكل الجمهوري قد أفرغ من مضمونه بشهادة الواقع الذي يتحدث عن نفسه بصوت عال لا يحتاج معه إلى دليل، بل إن طلب الدليل من واقع واضح وضوح الشمس هو ضرب من الجنون، ولعل أحسن تعبير عن حقيقة الواقع السياسي والدستوري في دنيا الحرب ما قاله أبو الطيب المتنبي منذ أحد عشر قرنا من الزمان:

وليس يصبح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل

فمنذ توارت فترة انتقال السلطة في الشكل الجمهوري بالانقلابات العسكرية، وبناء شرعيتها على أسس جديدة نظمتها الدساتير الجمهورية على النحو الذي أشرنا إليه سلك رأس النظام مسلكا شيطانيا متدرجا انتهى به المطاف إلى اختطاف سلطة الشعب وحقه في السيادة وغصب سلطتها، فغدت عناصر القوة السياسية في الدولة العربية الجمهورية في يد شخص واحد يقف على رأس إحدى السلطات الثلاث وهي السلطة التنفيذية، هو رئيس الجمهورية.

وإذا استقرأ الخبير الحصيف مآلات النظم العربية المعاشة في شكليها الملكي والجمهوري، ومدى مرارة حصاد كل منهما سيجد الشكل الجمهوري أشد مرارة ونكالا وضنكا منه في الأشكال الملكية، لسبب جوهري وبسيط في نفس الوقت: فالنظم الملكية ذات شرعية تاريخية رضي بها الأجداد وبنوا عليها ودافعوا عنها، وتوارثها الأبناء وبقوا على إرث آبائهم وبنو عليه، ورضوا به ودافعوا عنه ما دام الملك واعيا ومدركا لواقع شعبه، ومتطلبات مراحله، فيقوم بالتغيير التدريجي، في إطار الثبات، وهذا التعبير لا يعني سوى النقل المتدرج للسلطة من يد الملك الفرد إلى يد الأمة في مجموعها، دون أن يضطر إلى دفع ضريبة قاتلة تسدد فواتيرها الأمة في مجموعها بهدف خلق صورة مدلسة، توهم بالانسجام بين شكل النظام ومضمونه.

أما في الشكل الجمهوري فإن رأس الدولة: يصل إلى سدة الحكم وهو يدرك أن في واقع الأمة ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح (قابلية الاستبداد) مع أنها هي صاحبة السيادة والسلطان، ومن ثم فهي وحدها من يملك حق منح ومنع الولاية في كل سلطات الدولة بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وغالبا ما يكون الإدراك مصحوبا بهوى الاستبداد، ومصحوبا بحالة نفسية عند المستبد تقول له: ستحسن صنعا وأن هذه الأمة ستكون في مستقبل أفضل لو استبدت بالأمر من دونها واستحوذت على إدارة شؤونه ولكن نفسية المستبد هي أيضا نفسية أمارة بالسوء وخبيرة في طرق الغواية والهداية إلى مواطنه، إذ ستتبع هذا السؤال بسؤال آخر: إذا كان شكل النظام الذي تقف على رأسه شكلا جمهوريا، وهذا الشكل صار مقدسا في العقل الجمعي للأمة فكيف ستوفق بين ديمومة الشكل، وبين مضمونه الذي يقف سدا مانعا بينك وبين النفس وما تهوى؟

وهنا تبدأ النفس الأمارة بالسوء بهدي الغواية إلى مواطن سوئها بطرق شيطانية سنقف عندها تاليا.

ثالثاً: إستراتيجية المستبد الجمهوري في إفراغ المضمون

يتخلص فجوى المضمون الاستراتيجي للمستبد الجمهوري في تجريد الأمة من مبدأ سيادتها الشعبية، وممارسة مقتضاها في حكم نفسها بنفسها ولنفسها عبر وسائل وأدوات وآليات ديمقراطية شوروية وقانونية وسياسية والانحراف بمضمونها تجاه سلطة الفرد، وتكييف الواقع القانوني، والسياسي والاجتماعي والإعلامي على نحو يجعله هو مصدر قوة النظام ومحوره وقطب رحاه وليس لأمة ويبني هذا الفجوة على رؤية إبليسية مفلسفة بواقع التخلف الشامل للأمة وعدم بلوغها سن الرشد السياسي الذي يجعلها أهلاً لامتلاك الحل السلمي للسلطة: وتداولها بين نخبها السياسية بأمن وسلاسة.

ولكي يمتلك المستبد القدرة على تحقيق الهدف الاستراتيجي فلا بد له من مؤسسة عسكرية وأمنية مأمونة الولاء تمكنه من غصب سلطة المال أولاً، والتي بدورها تمنحه قدرة هائلة على الهيمنة على سلطات الدولة من تشريع وتنفيذ وقضاء وإفراغ هذه السلطات من مضمونها الحقيقي، وهندسة بنائها على نحو شيطاني يؤدي إلى شل صلاحيتها وحرف مسارها صوب تحقيق إستراتيجية الاستبداد بالسلطة، وتكريسها في يده، بحيث تغدو وظائف الدولة وسلطاتها الثلاث مجرد أدوات في يد المستبد الجمهوري.

وإجمالاً يمكن القول بأن امتلاك المستبد الجمهوري لقوة الجيش والأمن وقوة المال والصلاحيات الدستورية الواسعة التي تمكنه من تسخير الوظيفة العامة قد مثلت حجر الزاوية في هذا المضمار وأن هذه القوة الثلاثية كانت بمثابة حلقات قادت إلى توالد بقية الحلقات اللازمة لإحكام القبضة على التفصيل التالي:

1- فبمؤسستي الجيش والأمن امتلك قوة الترهيب ووظفها في إرهاب خصومه عند اللزوم، وإخافة كل أفراد المجتمع السياسي داخل الدولة.

2- وبقوة المال النقدية والعينية الممثلة في الأراضي الشاسعة المملوكة للدولة أمتلك قوة الترغيب وهذه قادت بدورها إلى سلسلة من الحلقات بعضها يلازم بعضاً وبعضها من لزوم بعضه الآخر، وبعضها مكاثر لبعض ومولد لبعضه الآخر.. وهكذا فالمال الظلامي.. مكنه من شق النخبة السياسية فكون منها قاعدة عريضة تناصره وتؤازره ومن هنا باتت الولاءات المشتراه إحدى الوسائل الناجعة بيد المستبد في تحقيق غاياته، حيث غدت أجزاء كبيرة من النخبة السياسية رهن إرادتها في بادئ الأمر ثم تحول بعد ذلك وتطور سلبا حتى غدا نوعا من الأسر والعبودية وذلك نتيجة تطور وتنوع وسائل إغراءات المستبد فصار النصير المُشترى رهن مجموعه من الامتيازات بعد أن امتلك المستبد الجمهوري الوظيفة العامة وما ترتبت عليها من زيادة في الامتيازات

وبالمال الظلامي وتسخير الوظيفة العامة امتلك المستبد القدرة على تشكيل جهاز إداري كبير وسماه حزباً أو تنظيماً سياسياً، وصار أهم مخالب المستبد الجمهوري في خلق أغلبية مشتراه داخل السلطة التشريعية وهذه الأغلبية التي حرص المستبد على أن تكون كاسحة، ومريحة هي التي تكفل له الغطاء القانوني اللازم لكل حلقات الهيمنة وميادينها وأول ميادينها هو النظام الدستوري للدولة.

فبهذه الأغلبية العددية المشتراه تمكن المستبد من هندسة الوضع الدستوري وتطويعه في خدمة إستراتيجية الحاكم الفرد بدءاً بصيغة شكل النظام بحيث انعدم في ظلها مبدأ التوازن بين السلطة والمسئولية، وبهذه الأغلبية الكسيحة تم توفير النصوص المتعددة التي تفصّل على هوى المستبد وإداراته وبهذه الأغلبية الأسيرة تمكن الحاكم الفرد من جعل السلطة القضائية إحدى أدواته الهامة في تحقيق الهدف الاستراتيجي.

وإذا كان هذا الحال يصدق على صعيد التشريع الدستوري، فإنه يصدق على التشريعات العادية من باب أولى.

وبالمال الظلامي وما يلازمه من إغراء وظيفي يحكم المستبد استبداده بالهيمنة على المستوى الثاني في السلطة التنفيذية، فينتدب مجموعة من الموظفين ذوي الولاءات المشتراه ويكون بهم مجلساً يسمى مجلس الوزراء يكون طوع بنانه وأحد أدواته الهامة في الهيمنة.

وبالولاءات المشتراه بالمال وبالوظيفة العامة وما تتبعهما من امتيازات آسرة يمتد سلطان المستبد من المركز في العاصمة إلى الأطراف في المحافظات والمديريات فتكون سلطتها واحدة من أدواته.

3- وبهيمنة الحاكم الفرد على سلطات الدولة الثلاث: تغدو سيطرته على وسائل الإعلام المملوكة للدولة إحدى النتائج الطبيعية لطغيانه، توظيفاً مظللاً، أو تكون إحدى الوسائل الهامة في تحقيق الغايات المرعبة في خواتمها، والكارثية في مآلاتها.

4- وبهيمنة المستبد الجمهوري على عناصر القوة في الدولة وتجريد الأمة منها يكون من لوازم ثبات الاستبداد ودوامه أن ينشئ المستبد ومن مالأه وارتبط بمصيره أجهزة للرقابة المالية والإدارية تتبع مؤسسة الرئاسة مباشرة وتوظف نتائج أعمال هذه الأجهزة توظيفاً ترهيبياً يبتز به الحاكم الجمهوري من يشاء من رجال حكمه عند اللزوم، وبهذا يغيب الهدف الحقيقي من إنشاء هذه الأجهزة في كشف الفساد وملاحقة الفاسدين.

رابعاً: الاستبداد الجمهوري ومرارة الحصاد

إن مجاراة الحاكم الجمهوري للجمهور في الحرص على بقاء شكل النظام وسعيه- في ذات الوقت- إلى خوائه وإفراغه من مضامينه الحقيقية ونجاحه في هذا المسعى، لا يمكن أن يتم إلا بإعادة بناء الشكل الجمهوري للنظام بأدوات فاسدة، أي أن المستبد الجمهوري لن يصل إلى غاياته في الاستبداد إلا بتأسيس النظام على الفساد وهذه فرضية حتمية بحكم طبائع الأشياء. ولا شك أن هذا المسلك هو طريق قاتل في مآله للمستبد وللأمة معاً. فالهندسة الفاسدة في أساسها لن تثمر سوى الحصاد المر، ولن تثمر إلا شبكة مقعدة من الفساد المتراكم وأن ظاهرة ما يسمى بـ(فساد الاستحواذ) ستكون نتيجته طبيعية ومنطقية لمثل هذا النظام وأهم سمة من سماته، وهذا النوع من الفساد لا يمكن التخلص منه إلا بالتخلص من النظام ذاته إمّا على نحو إداري تاريخي في ذات المستبد أو على نحو لا إداري يتسم بالعنف، ناهيك هذا عن الفساد المسمى بـ(الفساد العادي) وهو فساد موجود في سائر النظم السياسية أياً كان شكلها ومضمونها ويسهل مكافحته وملاحقته، وتحجيم آثاره وجعلها تحت السيطرة.

إن الحديث المفصل عن شبكة الفساد بكل تعقيداته التي يفرزها نظام المستبد الجمهوري لا يمكن الإحاطة به في هذا المقام، و لكن يمكن الإلمام لأهم صورة على النحو التالي:

  • طغيان ظاهرة الشخصنة وحضورها الطاغي في كل مناحي الحياة، وهذا يعني غياب ما يعرف بدولة المؤسسات لأن هذه الصفة المؤسسية لن تتحول من شعار براق إلى واقع ملموس إلا في ظل نظام ديمقراطي حقيقي يتحول فيه ذوو المناصب السياسية إلى مجرد خدم يأتون إلى المؤسسات التي تسند إليهم ويقدمون خدماتهم لفترة زمنية معلومة، ثم ينصرفون تاركين مواصلة السير في مهام المؤسسة لمن تكلفهم الأمة بأمر إدارتها في الفترة الثانية.. وهكذا دواليك.. 
  • تواري مبدأ سيادة القانون واحتواء مضمونه، وحضور مبدأ سرطاني في الفعل، وتداعيات الفعل، وهو مبدأ الولاء للنظام وهنا تغدو نصوص القانون المتعلقة بالنظام الوظيفي، وما يفرضه من تراتبية محققة لمبدأ سيادة القانون مجرد نصوص تحكميّة لا معنى لها في ظل هذا النظام. 
  • اتسام النظام بالشمولية في كل مناحيه. 
  • خلق وتكاثر البيئات الجاذبة للشر (التطرف، الإرهاب، البطالة، الفساد التعليمي والاجتماعي، الفساد السياسي، الفساد الإداري...الخ) وضعف وتكاثر البيئات الطاردة للخيرات في شتى ميادينها (الاعتدال في الفكر، النمو الاقتصادي، الحيوية السياسية، نماء التعليم وجودته، جذب الاستثمار المحلي والأجنبي، الخلق المتجدد لفرص العمل...)

الخلاصة 

إن المستبد الجمهوري الذي لم يؤسس بنيان نظامه على التقوى وإنما على الفساد والإفساد المتعمد لم ولن يورث لنفسه وللأمة سوى ظلمات من التخلف يراكم بعضها بعضاً ويقوده هو والأمة معاً إلى الهلاك المحقق فتغرق السفينة التي تحمل الجميع، ما لم يتيقظ عقلاء الأمة وحكمائها على مختلف مشاربهم ويقفوا صفاً واحداً متسلحين بـ(ثقافة السفينة) فينجون وينجوا معهم المستبد، أو يغرق لوحده وتنجو السفينة ومن عليها في حال استمرار اعتقاده الواهم بأنه إنما يحسن صنعا، وفي حال إصراره ومن عنده على أن لن يري الأمة إلا ما يرى.

خامساً: أي طريق يقينا من الهلاك؟

إن المستقرئ الواعي لتاريخ الفكر السياسي والدستوري، وعبره والمتأمل في واقع الحال ومآله في ظل نظام الاستبداد الجمهوري، وطرق النجاة من غوائله: لا يجد أمامه سوى طريقين لا ثالث لهما: طريق الندامة، وطريق السلامة.

* أما عن طريق الندامة: فهو طريق المستبد ومن ثراهم بامتيازاته وأعمتهم جميعاً نشوة السلطة واستبدادهم بها دون الأمة، وواصل بهم العمى إلى حد أن بُعد نظرهم لا يتجاوز حد أنوفهم، وأسرتهم لذة اللحظة فحجبت عنهم الإدراك لسوء عواقب المآل.

فمثل أصحاب هذا الطريق سيظلون متمسكين وممعنين بالإمساك بالسلطة والاستحواذ عليها والاستبداد بها، والدفاع عن مسلكهم بكل السبل بما في ذلك المراوغة والكذب واتقاء كل ضغط عليهم ولا يرغب فيهم سيدهم بكل ما هو ممكن من ترهيب وترغيب وتضليل وذر للرماد على العيون بل أنهم سيتحيّنون الفرص لاسترداد ما يعتقدون أنهم فرطوا به، من عناصر قوة السلطة.

* أما طريق السلامة (طريقة الكتلة التاريخية): فهو طريق من استفاقوا من سكرتهم فسلكوا طريق الرشاد وجانبوا طريق الغي، وأدركوا أن التاريخ لا يرحم، واستحضروا عبر التاريخ، وسيرة عظمائه، فانبرى قائد ركب الاستبداد الجمهوري وكل من دار في فلكه، ووقع رهن امتيازاته، وقرروا جميعاً فك أسر السلطة، وإرجاعها إلى صاحب الحق الأصيل فيها وهي الأمة، ودعوا كل من كان يعترض طريق غوايتهم إلى الانضمام إلى الركب فيسير الجميع في هذا الطريق في شكل كتلة تاريخية يبني مسيرها على إستراتيجية وطنية غايتها إرجاع السلطة للأمة وتداولها سلميا بين نخبها، عبر كل الوسائل المصلحة لما أفسده دهر المستبد الجمهوري، وخلق كل البنى التحتية الموصلة إلى غايتها النهائية في سهولة ويسر وسلاسة (بُنى معرفية، تنموية وتعليمية..) وهذا هو طريق الكتلة التاريخية.

سادساً: التعديلات المقترحة في اليمن الجمهوري وأي الطريقين سنسلك

نظر كاتب هذا الأحرف في التعديلات المقترحة من رأس النظام ومن تمالأ معه: ولم يقف طويلاً عندها.

فبحكم تخصصه في الميدان السياسي والدستوري، لاحظ ولأول وهلة أنها تسير في طريق الندامة وليس في طريق السلامة، أو طريق الكتلة التاريخية بل وجد أنها لن تقف عند حد الدفاع عن الوضع الراهن في الاستبداد الجمهوري بالسلطة والاستحواذ بها، بل سلكت مسلكاً هجومياً انتحارياً بهدف استرداد ما أثمره نضال الحركة الوطنية المعارضة منذ أمدٍ بعيد جسدته في نص دستوري يقضي بحرمة انتخاب من سبق انتخابه لمنصب رئاسة الجمهورية لدورة ثالثة، بل وجد الباحث أن هذا الهجوم الانتحاري الارتدادي هو غاية (مبدأ التعديل) المقترح وجوهره، وأن التعديلات الكثيرة الأخرى ليست إلا من باب ذر الرماد على العيون وهي تحصيل حاصل، بل أنها لغو وتدل على نزق النظام وتخبطه وحيرته أكثر منها شيئ آخر.

فالذي أفرع السلطتين التشريعية والقضائية من مهامها الأصلية وجعلهما مجرد أداتين مهمتين من أدوات استبداده، لا يمكن أن يسمح للمستوى الثاني في السلطة التنفيذية، على الصعيد اللا مركزي أن يتمتع بسلطات حقيقية يمارسها في استقلالية تامة تحت إشراف سلطة المركز، ويتحمل مسئولية قراراته.

و الذي جعل من السلطة التشريعية غير المركبة غطاء ديكورياً في الشكل الجمهوري الديمقراطي، وإفراغ مضمونها والانحراف به صوب إحكام قبضته على السلطة والإنفراد بها لا يمكن أن يجعل من السلطة التشريعية المركزية المركبة بتعديلاته المقترحة إلا أداة مضافة إلى أدواته في الاستبداد، وفي زيادة إحكام قبضته عليها.

والذي يمعن في البقاء على رأس النظام يحرص ويقاتل على أن يظل هو قطب رحاه الذي يملك كل شيء ولا يسأل عن شيء ولا يرى الأمة إلا ما يرى لا يمكن أن يتغيا من (كوتة المرأة) وتمييزها إيجابياً سوى أمرين أولهما: المزيد من تكريس السلطة بإضافة كمية عددية تضاف إلى العدد الكمي الغالب على طريقة المثل القائل (ما دواء البشم؟ قال: ارزم ارزم).

وثانيهما كسب ود الدول المانحة ورضاها عن الوضع في اليمن كما أن الحاكم في هذا يستنسخ طريق المستبد الجمهوري، في جمهورية مصر العربية.

لو كان رأس النظام جاداً ورحيماً بنفسه وبذوي الولاءات المشتراه في نظام حكمه وبالأمة المسكينة التي أغراه صبرها لسلك مسلك الطريق التاريخي ولوضع مقترح التعديل في المسار الصحيح وهو المسار الذي يسمح بفك أسر السلطة وغصبها، وإرجاعها لصاحب الحق فيها وهي الأمة، ولركز مبدأ التعديل حول الأسس السياسية في الدستور بما يجعل النظام الدستوري والسياسي يقوم على التوازن المانع من الاستبداد وعلى صلاحية قطب رحى النظام وعلى المال الظلامي، وعلى حرمة الانتماء الحزبي مرحلياً على رئيس الدولة وعلى استقلال السلطة القضائية، استقلالاً تماماً في انتخاب قيادتها وعلى نظام انتخابي يحقق التوازن داخل السلطة التشريعية وعلى نظام لا مركزي، ينتزع جزءاً من قوة السلطة تتبعها مسئوليات حقيقية وليس دون هذا سوى خرط القتاد.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق