الأربعاء، 16 سبتمبر 2009

الفردية العصبوية والدولة اللامركزية: قراءة سريعة في "مشروع رؤية للإنقاذ الوطني"

د. عبد الله الفقيه
استاذ العلوم السياسية في جامعة صنعاء

عن صحيفة الأهالي عدد الثلاثاء 15 سبتمبر 2009

بعد حوالي ثلاثة اشهر من العمل المتواصل اطلقت اللجنة التحضيرية للحوار الوطني ما اسمته "مشروع رؤية للإنقاذ الوطني" خلال مؤتمر صحفي عقد الإثنين 7 سبتمبر 2009 في فندق رمادا حدة بالعاصمة صنعاء. وقد احتوت الرؤية، التي وزعت في كتيب على حوالي 11 الف كلمة وحوالي 62 الف حرف. ولا ينقص مشروع الرؤية الصدق في التعبير أو الوضوح في الأفكار او الخيال السياسي الواسع او الأناقة اللغوية. وقد عمدها المناضل الكبير محمد سالم باسندوة رئيس اللجنةالتحضيرية للحوار الوطني ومستشار رئيس الجمهورية الذي يشكو دائما من انه لا يستشار ، بذرف الدموع مرتين خلال القاء كلمته القصيرة. وقال باسندوة، الذي ولد في الجنوب وعاش في الشمال، انه يخشى ان لا يستمر هذا الوطن حتى تاتي الإنتخابات القادمة في ابريل 2011 مضيفا بصراحة ووضوح انه وصل الى سن لم يعد يخشى فيه السجن او القتل وان الحقيقة هي ان الرئيس يحتكر السلطة وان لا صلاحية لنائب الرئيس او رئيس الوزراء او غيره، وان الرئيس يستطيع ان يقيل اي شخص في الدولة بالتلفون. وقد وافقه الأمين العام للجنة التحضيرية الشيخ حميد الأحمر الراي حيث ذكر ردا على سؤال عن دور القبيلة ان الشخص الوحيد الذي يحكم في اليمن هو الرئيس وان الحديث عن القبيلة كعائق لبناء الدولة مجرد توظيف للقبيلة كشماعة لأخطاء السلطة متسائلا اين كان النظام خلال اكثر من ثلاثين عاما وكيف لم ينجح في بناء الدولة.
ويتكون مشروع رؤية الإنقاذ المقدم من اللجنة التحضيرية للحوار الوطني، التي تشكلت في مايو الماضي من ممثلين للاحزاب والقوى الساسية، من مقدمة وثلاثة اقسام حيث يناقش القسم الأول من الرؤية الأزمة السياسية الراهنة من حيث الجذور والمظاهر السياسية والوطنية والإقتصادية للازمة، وفي القسم الثاني المخصص للحلول والمعالجات يتم التفريق بين المهام والمعالجات الإنقاذية التي يمكن ان توقف عملية الإنهيار التي تشهدها البلاد وبين مهام بناء الدولة المدنية الحديثة. وخصص القسم الثالث للاليات التي يمكن اعمالها لتصحيح المشكلات وبناء دولة المواطنة المتساوية.
تشخيص الأزمة
تميز الرؤية بين جذور الأزمة ومظاهرها، وتُرجع الرؤية جذر الأزمة اليمنية الشاملة التي تهدد البلاد بالإنهيار، كما ورد في المقدمة، الى "الحكم الفردي المشخصن الذي حول الدولة اليمنية من مشروع سياسي وطني، إلى مشروع عائلي ضيق، أفضى إلى تقويض وإهدار نضالات وتضحيات أبناء اليمن والقفز على مكتسبات وأهداف الثورة اليمنية ومضامين وحدة 22 مايو السلمية 1990م." وتضع الرؤية نموذج "الحكم الفردي الإستبدادي" في سياقه التاريخي بالإشارة الى معاناة اليمنيين خلال مراحل طويلة من هذا النموذج للحكم. واذا كانت الرؤية في هذا الجانب تعكس الوعي المتراكم لدى اليمنيين والذي تكون خلال مراحل النضال الوطني الطويل، فان الجديد الذي تضيفه الرؤية هو تأكيدها على ان " الحكم الفردي الاستبدادي" قد أستند الى "عصبوية سياسية" وان تلك العصبوية"سعت دوما إلى تكريس المركزية غير المؤسسية كذريعة وغطاء لتبرير احتكارها العصبوي لمصادر القوة، ومفاصل السلطة، وموارد الثروة، ليشكل ذلك كله المعضلة والأزمة التي أهدرت حق الأمة في السلطة، ومقدرات البلاد البشرية والمادية، وكرست عوامل التخلف والضياع ."
ومع ان الرؤية وصفت العصبوية بانها سياسية الإ ان الواضح ان المقصود بها في هذا السياق هو ذلك التكتل الذي يقوم على اساس الرابط الأولي سواء اكان ذلك الرابط هو الدم والقرابة كما في حال القبيلة او السلالة، او المعتقد كما هو الحال في حالة المذهبـ، او في المنطقة الجغرافية او مزيج من كل ذلك. ولو كان المقصود بالعصبوية هو الجانب السياسي لتم توظيف مصطلح الحزب او التنظيم السياسي او التكتل او غير ذلك. وتكمن أهمية هذه الإضافة في امرين: من حهة فان المصطلح يمثل اوضح مقاربة للمشكلة اليمنية المتمثلة في التركيز التاريخي للسلطة في عصبيات معينة، ومن جهة ثانية فان هذا التشخيص يقدم اقوى حجة حتى الان لدعم مطلب الدولة اللامركزية. ويفتح هذا المدخل في الفكر السياسي اليمني الباب واسعا امام اليمنيين لإعادة النظر في شكل الدولة واختيار اي شكل من اشكال التنظيم طالما كان ذلك الشكل كما قال الشيخ حميد الأحمر في استعراضه للرؤية ضامنا لأمرين: الوحدة اليمنية، وعدم اعادة انتاج النموذج التاريخي للحكم الفردي العصبوي.
بالنسبة لمظاهر الأزمة فقد فرقت الرؤية بين ثلاثة انواع من المظاهر: سياسية، وطنية، واقتصادية. واعتبرت الرؤية "شخصنة الدولة والسلطة والنظام"، وتعطيل الدستور والقوانين والهيمنة على القضاء والسلطة التشريعية وتدمير النظام المؤسسي الديمقراطي ومصادرة الحقوق والحريات العامة وغيرها أهم مظاهر الأزمة في الجانب السياسي. اما المظاهر الوطنية للازمة، ولعل المقصود هنا هو المظاهر التي تهدد الأمن الوطني للبلاد، فتتمثل في نزيف الدم في محافظة صعدة، والغليان الجماهيري في المحافظات الجنوبية. وعند الحديث عن المظاهر الإقتصادية والإجتماعية للازمة، ركزت الرؤية على الأوضاع المعيشية وارتفاع الأسعار واهدار الموارد العامة وفساد الإدارة وضعفها، وغير ذلك من الجوانب.
الحلول والمعالجات
يعد الجزء الخاص بالحلول والمعالجات أطول أجزاء الرؤية حيث يحتل الصفحات من 41 وحتى 88 ويقدم هذا الجزء انضج مشروع عرفه التاريخ اليمني لبناء الدولة الوطنية الحديثة، وتعكس الرؤية في هذا الجانب وعيا متزايدا لدى النخبة السياسية بتعدد الخيارات المتاحة وبالتشابك والتعقد الذي تتصف به الدولة الوطنية الحديثة. ويتكون هذا القسم من جزئتين الأولى تتصل بوقف الإنهيار من خلال اتخاذ بعض الإجراءات العاجلة الكفيلة باطفاء الحرائق المشتعلة والثانية تتصل بمشروع الدولة المدنية الحديثة. وقد ركزت الجزئية الأولى المتصلة بوقف الإنهيار على:
1. ضرورة تهيئة الأجواء والمناخات السياسية لقيام الحوار وحل المشكلات القائمة وذلك عن طريق وقف الحملات العسكرية والإعتقالات والمطاردات للناشطين السياسيين واطلاق المعتقلين السياسيين، والغاء كافة القيود على الحقوق والحريات العامة، وغير ذلك من الإجراءات.
2. ازالة آثار حرب عام 1994 عن طريق معالجة اوضاع كافة المبعدين، وتشكيل هيئة وطنية للمصالحة والإنصاف، واعادة الممتلكات التي تم الإستيلاء عليها ومحاكمة المتورطين في العبث باراضي وعقارات وموارد الدولة والمال العام والممتلكات التعاونية، وايقاف ثقافة تمجيد الحروب الأهلية.
3. معالجة آثار الحروب والصراعات السياسية السابقة بما في ذلك احداث عام 1978 والتعويض عن الأضرار المادية والمعنوية التي لحقت بالأفراد جراء ذلك.
4. وقف الحرب في صعدة وحل الصراع القائم عن طريق الحوار وبما يكفل عدم تجدده ومعالجة كافة آثار الحرب وتعويض المتضررين واعادة الإعمار.
5. معالجة قضايا الثأر والعنف المحلي
أما الجزئية الثانية في قسم الحلول والمعالجات فتقدم كما سبق القول ما يمكن وصفه بانضج مشروع لبناء الدولة المدنية الحديثة. وتستوعب الرؤية في هذا الجانب أهم الأفكار التي طرحت على الساحة اليمنية خلال القرن الماضي. ولعل الإضافة المتميزة للرؤية هي تبني الرؤية وبقوة لمبدأ بناء الدولة على قاعدة اللامركزية. وياتي هذا التبني متوافقا مع تشخيص لجنة الحوار لطبيعة الأزمة القائمة ولجذرها الأساسي المتمثل في الحكم الفردي المستند الى عصبوية مركزية. وأهم خصائص اللامركزية التي تبنتها لجنة الحوار الوطني، وبغض النظر عن الشكل الفعلي الذي ستتخذه (حكم محلي واسع الصلاحيات، حكم محلي كامل الصلاحيات، فدرالية،...) هي الاتي:
1. مراعاة الوحدة الوطنية والعوامل الجغرافية والإقتصادية والسكانية في تحديد عدد المحافظات او الوحدات الإدارية.
2. وجود منفذ بحري لكل وحدة ادارية او اقليم.
3. الإنتخاب المباشر لقيادات الوحدات الإدارية وتدوير المناصب وهذه النقطة بالتحديد يمكن ان تحد من محاولة النخب المحلية السيطرة على السلطة والثروة داخل كل وحدة.
4. تحديد سلطات الحكومة المركزية وسلطات الوحدات الإدارية والسلطات المشتركة والعلاقة بين الحكومة المركزية وسلطة المحليات بشكل واضح في الدستور.
اليات التنفيذ
يعتبر الجزء الخاص باليات التنفيذ (الصفحات من 91 وحتى 93) اقصر أجزاء الرؤية لإن موضوع الأليات بالتأكيد هو أخطر اجزاء المبادرة. واذا كان الحوار الوطني الشامل، كما جاء في الوثيقة المطروحة، هو الآلية الأولى لإيصال الرؤية الى كل ابناء الشعب والتعريف بها والتعرف على ملاحظات الناس حولها، وايجاد اجماع وطني حولها، فان الآلية الثانية والأهم هي مؤتمر الحوار الوطني الذي سيأتي تتويجا لهذه المرحلة والذي يتوقع ان يقر الرؤية بشكلها النهائي بعد استيعاب معطيات الحوار الموسع وان يتبنى آليات التغيير السلمي.
وصحيح ان الوثيقة لم تحدد كما ذكر الأستاذ مراد هاشم مراسل الجزيرة في سؤال له خلال المؤتمر الصحفي الذي اعلنت فيه الرؤية موعدا لعقد المؤتمر الوطني ولم تتضمن جدولا زمنيا للحوار الوطني ، وانها الى حد ما كما يقول الأستاذ احمد صالح الفقيه "أقل من برنامج عمل وأكثر من مشروع دستور" الإ ان ذلك لا يقلل من أهمية الوثيقة بل يمثل احد مصادر قوتها. ولعل الفترة القياسية التي تم خلالها انجاز الرؤية والكلمات التي القيت في المؤتمر الصحفي تعطي مؤشرا على ان لجنة الحوار الوطني تعمل بكل جد واجتهاد وتستشعر المخاطر المحدقة باليمن وتعي جيدا ان الزمن ليس في صف اليمنيين وان الأمور قد تستدعي عقد مؤتمر الحوار الوطني بسرعة وفي اي وقت.
لقد مثل عقد مؤتمر التشاور الوطني في مايو 2009 خطوة مهمة لأحزاب اللقاء المشترك في الإنفتاح على القوى السياسية والإجتماعية والثقافية داخل البلد وبلغ ذلك النجاح ذروته في تشكيل لجنة الحوار الوطني التي انفتحت في عضويتها على كافة مكونات الطيف السياسي بما في ذلك الجماعات والأشخاص المحسوبين على السلطة. وجاء اسناد رئاسة اللجنة لمستقل مثل الأستاذ محمد سالم باسندوة ليؤشر على تطور نوعي في عمل المعارضة. وهاهي رؤية الإنقاذ المطروحة للحوار الوطني تأتي فتعكس في نصوصها انفتاحا سياسيا غير مسبوق على مكونات الحراك الجنوبي وعلى الحركة الحوثية وعلى كافة التيارات السياسية والإجتماعية والإقتصادية داخل البلاد.
ولا تحتاج لجنة الحوار الوطني خلال المرحلة القادمة حتى تحقق اهدافها الى اقناع الحاكم او حزبه بمشروع الإنقاذ. فالتحدي الحقيقي الماثل امامها يتمثل في ايصال الرؤية الى كل اليمنيين وعقد حوار وطني شامل حول الأفكار الواردة فيها والتحضير الجيد لمؤتمر حوار الوطني يعبر بصدق عن الإرادة الشعبية ويحدد الأليات السلمية اللازمة للانتقال من مرحلة بناء القناعات واعداد المخططات الهندسية الى مرحلة وضع تلك المخططات موضع التطبيق.
روابط ذات علاقة
نص "مشروع رؤية للانقاذ الوطني"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق