الاثنين، 29 يوليو 2019

عاصفة الخلافات تهب على السعودية (غير مسلسل 17)



بعد مذبحة جنود الإمارات في معسكر صافر بمحافظة مآرب اليمنية في الجمعة الأولى من  شهر سبتمبر (جمعة 4 سبتمبر 2015)، وبعد يوم واحد من إقالة سعد الجبري وزير الدولة المسئول عن ملف استخبارات اليمن (10 سبتمبر 2015)، كانت السعودية على موعد مع جمعة أخرى، لا تقل سخونة عن سابقتها (جمعة 11 سبتمبر 2015).  كانت الجمعة الثانية من سبتمبر في ذلك العام تصادف أيضا الذكرى الـ14 لهجمات الـ11 من سبتمبر 2001 على مركز التجارة العالمي في نيويورك ووزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) والتي نفذها 19 إرهابيا 15 منهم يحملون الجنسية السعودية. 

سقوط الرافعة   

أعلن قبل غروب شمس يوم الجمعة الـ28 من شهر ذي القعدة 1436 هـ، والموافق الـ11 من سبتمبر 2015، سقوط إحدى الرافعات العاملة في الجهة الشرقية من الحرم على رؤوس الحجاج. كانت الرافعة تعمل ضمن مشروع توسعة الحرم الذي تنفذه شركة بن لادن. وقد أدى سقوطها، رغم تباين وسائل الإعلام حول العدد الفعلي، إلى مقتل 111 حاجا بموجب احد التقديرات، وجرح 238 حاجا آخرين.

وبالطبع، فإن العدد النهائي للضحايا والجرحى، وهم من الحجاج الذين وصلوا مبكرين، لم يعلن في ساعتها ولحظتها ولكن تم الوصول إليه بالتدريج كما يحدث عادة في مثل هذه الحالات. وقد أثار سقوط الرافعة العديد من الأسئلة للأسباب التالية:


أولا، أن زمن سقوط الرافعة ورغم تباين التقارير في تحديده قد حدث تقريبا في الوقت ذاته الذي وقعت فيه الهجمات على برجي مركز التجارة العالمي في مدينة نيويورك، إذا ما أُخذ في الاعتبار فارق التوقيت بين نيويورك ومكة المكرمة.

ثانيا، وقع سقوط الرافعة في الحرم المكي في ذات اليوم الذي وقعت فيه هجمات الـ11 من سبتمبر 2001 الإرهابية، وإن اختلفت الأعوام.

ثالثا، مثلت العلامة التجارية المميزة "بن لادن" قاسما مشتركا بين الحادثتين، وذلك لكون الرافعة مملوكة لمجموعة "بن لادن" والتي يفترض أن أسرة "بن لادن" التي ينتمي إليها أسامة بن لادن مؤسس تنظيم القاعدة الإرهابي والذي تقول السعودية والولايات المتحدة بأنه العقل المدبر لهجمات الـ11 من سبتمبر 2001، هي المالك والمسير للمجموعة.

كما مثلت الماركة أيضا قاسما مشتركا بين الحادثتين وحادثة ثالثة وقعت في نوفمبر 1979، وهي قيام جهيمان العتيبي والمئات من أتباعه باستغلال أعمال التوسعة في الحرم المكي والتي تنفذها شركة "بن لادن" لإدخال أسلحة تم توظيفها فيما بعد في الاستيلاء على الحرم ومقاومة رجال الأمن لمدة أسبوعين قتل خلالها المئات، وربما الآلاف، من قوات الأمن والمعتمرين وأتباع جهيمان.   
    
رابعا، لم يخل حادث سقوط الرافعة التي وصفت بأنها اكبر وأضخم رافعة حديدية على مستوى الشرق الأوسط، ولا يوجد منها سوى نسختين في العالم، من تشابه مع سقوط برجي مركز التجارة العالمي. ففي الحالتين كان هناك مسألة الارتفاع والسقوط. وكما أن برجي مركز التجارة العالمي كانا الأطول في أمريكا والعالم لفترة، فقد كانت الرافعة هي الأكبر في الشرق الأوسط. ويعد المسجد الحرام الأكبر في العالم وأعظم مسجد في الإسلام.

وفي الحالتين هناك قدرا كبيرا من الرمزية. فكما أن برجي مركز التجارة عدا رمزا للهيمنة الاقتصادية الأمريكية على العالم، فإن الحرم المكي مثل رمزا للمكانة الدينية للمملكة ولهيمنتها الروحية على العالم الإسلامي. ويكفي القول أن المسلمين يتخذون المسجد الحرام قبلة لهم عند الصلاة. وإذا كان استهداف برجي التجارة قد أريد منه استهداف القوة الاقتصادية لأمريكا، فإن سقوط الرافعة قد أريد منه بشكل أو بآخر استهداف المكانة الدينية والروحية للسعودية بين المسلمين.

خامسا،  رغم اختلاف وسائل الإعلام حول أرقام ضحايا حادثة الرافعة، فقد لوحظ أنها دائما اقتربت من عدد الأدوار في احد البرجين. فالرقم 107 مثلا والذي تكرر كثيرا في التقارير يقل بـ3 فقط عن عدد الأدوار في كل برج والبالغ 110 أدوار. ثم أن الرقم 111 مثلا والذي يقرأ 11 من اليمين ومن اليسار أو من الوسط لا يزيد عن عدد الأدوار في البرج الواحد وهو 110 سوى بواحد ناهيك بالطبع عن أنه يحاول التذكير بما حدث في عام 2001 بطريقة تخلو حتى من اللياقة.  
فريق الملك

أظهرت طريقة التعامل مع حادثة سقوط الرافعة وجود انقسام واضح في فريق الملك سلمان إلى معسكرين على الأقل باتجاهين مختلفين: فريق الديوان الملكي بقيادة سلمان ونجله ومستشاريهم؛ وفريق الدولة الأمنية العميقة بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن نايف. وفيما يتصل بالفريق الأول، فقد سارع الملك سلمان، كما هو ديدن آل سعود دائما عندما يقعون في مأزق، إلى إلقاء النقود على جثث الموتى وجروح المصابين. فقد وجه الملك في هذه الحالة بالذات بصرف مليون ريال سعودي (حوالي ربع مليون دولار أمريكي) لأقارب كل متوفي، ولكل معاق بشكل دائم، ونصف مليون ريال سعودي (حوالي 125 ألف دولار أمريكي) لكل واحد من المصابين الآخرين.  كما وجه الملك أيضا باستضافة اثنين من ذوي كل متوفي من الحجاج القادمين من الخارج في العام القادم، وكذلك المصابين الذين لم يتمكنوا من استكمال مناسك الحج لهذا العام.
  
واتخذ الملك ثلاثة إجراءات بحق "مجموعة بن لادن" المنفذة لمشروع التوسعة تمثل أولها في منع سفر جميع أعضاء مجلس إدارة مجموعة بن لادن، والمهندس بكر بن محمد بن لادن، وكبار المسئولين التنفيذيين في المجموعة و"غيرهم ممن لهم صلة بالمشروع" وذلك حتى يتم الانتهاء من التحقيقات وصدور الأحكام القضائية. ونص الإجراء الثاني على منع الشركة من الدخول في أي منافسات أو مشاريع جديدة حتى انتهاء التحقيق وصدور الأحكام. وكلف الملك بموجب الإجراء الثالث، وزارة المالية والجهات المعنية بمراجعة جميع المشاريع الحكومية التي تنفذها المجموعة، والتأكد من التزامها في جميع تلك المشاريع بأنظمة السلامة.

فريق الدولة الأمنية

تبنى فريق الدولة الأمنية العميقة الذي كان يعرف جيدا ماذا يعني حدوث مثل هذه الأمور وكيف ينبغي التعامل معها عندما تحدث إلى تبني إستراتيجية تركز على الخروج بأقل الأضرار للدولة وأجهزتها الأمنية من جهة، ولشركة بن لادن ذاتها من جهة ثانية. وقد سارع هذا الفريق بإلقاء المسئولية في سقوط الرافعة منذ اللحظة الأولى وقبل أن يبدأ أي تحقيق، على ثالوث "العواصف الشديدة والرياح القوية والأمطار الغزيرة." وجاء في بيان صدر بعد الحادثة مباشرة باسم رئاسة الحرم المكي والمسجد النبوي مثلا ما يلي:

"إنه في تمام الساعة الخامسة وعشر دقائق من عصر الجمعة، ونتيجة للعواصف الشديدة والرياح القوية والأمطار الغزيرة والحالة الجوية على العاصمة المقدسة سقط جزء من إحدى الرافعات بالمسجد الحرام على جزء من المسعى بالمسجد الحرام والطواف."

وكما أن الأوامر بالتحقيق لم تمنع الإعلان اليقيني مقدما عن سبب السقوط، فإن الإعلان اليقيني عن سبب السقوط من قبل رئاسة الحرم أو حتى الدفاع المدني لم يمنع من استمرار التحقيق رغم التناقض الواضح بين التوجهين.  ومع أن الملك وجه، وهو يعلن التعويضات المقدمة منه شخصيا، بأن لا يحرم ذوي المتوفين والمصابين من المطالبة بـ"الحق الخاص قضائيا" بعد انتهاء التحقيقات، إلا أن المسارعة إلى نفي الشبهة الجنائية وتحميل ترويكا "العواصف الشديدة، والرياح القوية، والأمطار الغزيرة" المسئولية حتى قبل أن يبدأ التحقيق، كان يعني عمليا أن الملف قد تم إغلاقه.
   
ردود الفعل

بحسب البروتوكول الذي كان متبعا حينها في السعودية، فقد سارع  الدكتور نبيل العربي، الأمين العام لجامعة الدول العربية، والدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، والدكتور شوقي علام، مفتي مصر إلى نعي ضحايا الرافعة، وتقديم أحر التعازي إلى أسر الضحايا وإلى خادم الحرمين الشريفين والمملكة العربية السعودية والأمة الإسلامية جمعاء، ودعا ثلاثتهم الباري عز وجل بأن يحتسب ضحايا الرافعة بين الشهداء.

وفيما يخص قرار التعويضات، فقد انتقدت الصحفية فريدة النقاش رئيسة تحرير صحيفة الأهالي المصرية، لسان حال التجمع اليساري في مصر، طريقة المقايضة التي اتبعها السعوديون عبر وسائل الإعلام وقبل أن يتم الانتهاء من التحقيقات، مؤكدة كما نقل عنها، بأنه "ليس هناك ما يعوض أسرة أو زوجة أو أطفالا عن هذا الموت المفجع لأهاليهم." وكان بإمكان الصحفية النقاش أن تنتقد كذلك أسلوب القفز إلى نتائج حتى قبل حتى أن تبدأ التحقيقات، لكنها إما لم تفعل أو أنها فعلت لكن لم ينقل عنها ذلك.   

وانتهت التحقيقات وفقا لما أوردته وسائل إعلامية سعودية إلى ما يلي:

"أن السبب الرئيسي للحادثة هو تعرض الرافعة لرياح قوية بينما هي في وضعية خاطئة، وأن وضعية الرافعة تعتبر مخالفة لتعليمات التشغيل المعدة من المصنع، التي تنص على إنزال الذراع الرئيسية عند عدم الاستخدام، أو عند هبوب الرياح، ومن الخطأ أن تبقى مرفوعة، إضافة إلى عدم تفعيل واتباع أنظمة السلامة في الأعمال التشغيلية، وعدم تطبيق مسئولي السلامة التعليمات الموجودة بكتيب تشغيلها، يُضاف إلى ذلك ضعف التواصل والمتابعة من مسئولي السلامة بالمشروع لأحوال الطقس، وتنبيهات رئاسة الأرصاد وحماية البيئة، وعدم وجود قياس لسرعة الرياح عند إطفاء الرافعة، إضافة إلى عدم التجاوب مع عدد من خطابات الجهات المعنية بمراجعة أوضاع الرافعات، خصوصاً الرافعة التي سببت الحادثة."

وكانت هذه النتائج هي بالضبط ما حاول فريق الدولة الأمنية تجنب الوصول إليه لما يمكن أن يكون له من تأثير سلبي على الدولة والأسرة الحاكمة، لكن ما دام الملك وفريقه قد أصروا على الوصول إلى نتائج، فقد حصلوا على ما أرادوا. والغريب أنه تم التوصل إلى تلك النتائج كلها خلال ساعات ودون أن يضطر أحد إلى مغادرة المكان الذي يجلس عليه. ولم تنتج قناة الجزيرة بعد برنامجا عن الحادثة، لكنه من المؤكد أنها ستفعل ذلك في الوقت المناسب.   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق