الجمعة، 3 سبتمبر 2010

اليمن المطلوب تغييره (الفصل الخامس عشر: غنى الوطن)

"ليكن شعاركم اليمن يستطيع فقد كان شعارنا في ماليزيا منذ البداية."
مهاتير محمد، رئيس وزراء ماليزيا السابق،
كما نقلت عنه صحيفة الغد في 29 ديسمبر 2008

تقول الطرفة أن الملك جبريل عليه السلام طاف على الكرة الأرضية بعد غياب طويل، وعند مروره بمصر سأل مرافقيه من الملائكة: أي دولة هذه؟ فقالوا له: هذه مصر، فقال: لقد تغيرت كثيراً. ومر بالسعودية فسألهم عنها فقالوا له: هذه السعودية، فتعجب من التغيير الذي شهدته، واستمر في طوافه في البلدان، وكلما مر على بلد وجد نفسه مضطرا للسؤال عن اسمه، لكنه عندما وصل إلى سماء اليمن، قال لمرافقيه: هذه هي اليمن، فاستغربت الملائكة من أن الملك جبريل الذي نسى معالم كل الدول تمكن من التعرف على اليمن، ولذلك سألوه: كيف عرفت اليمن ولم تتمكن من التعرف على أي من الدول الأخرى؟ وقد أجاب جبريل مرافقيه بقوله: لقد تغيرت الدول الأخرى كثيراً، أما اليمن فإنها كما هي لم تتغير.
فلماذا يا ترى لم تتغير اليمن حيث ينبغي أن تتغير وبالقدر الذي ينبغي أن تتغير به؟ ولماذا يوغل اليمنيون فقراً وجهلاً ومرضاً كلما أوغل جيرانهم غنىً وصحةً وعلماً؟ وهل الفقر بكل أوجهه المختلفة طبيعة ثانية لليمن واليمنيين ؟ وهل القول بأن اليمن هي "أصل العروبة" يعني بالضرورة أن اليمن هي "وطن الفقر" الذي دفع باليمنيين إلى الهجرة عبر العصور؟ ولماذا نفضت الدول المجاورة لليمن غبار الفقر عن نفسها في حين مازال غبار الفقر يزداد كثافة على جسد اليمني؟
وأياً تكن أجوبة الأسئلة السابقة، فإنه لا يمكن فهم طبيعة الفقر في اليمن دون الحديث عن الموارد بأشكالها المختلفة، بدءا بالسواحل العذراء، ومرورًا بالسهول، وإنتهاء بالجبال، ودون الحديث عن صيف اليمن الذي يزداد إعتدالا كلما اتجه الإنسان نحو صنعاء، وعن شتاء اليمن الذي يزداد دفئاً كلما اتجه الإنسان جنوبا نحو عدن.
صحيح أن اليمن لا تملك من الذهب الأسود (النفط) ما تملكه السعودية، أو الكويت، أو روسيا، لكنها كانت تملك منه أكثر مما يكفيها لمائتي عام على الأقل. وقد شهدت السنوات القليلة الماضية أكبر طفرة عرفها التاريخ الإنساني في سعر النفط. وزادت احتياطيات اليمن من النقد الأجنبي من حوالي 300 مليون دولار إلى أكثر من 8 مليار دولار، وبزيادة قدرها حوالي 27 ضعفا. وكان يمكن لتلك الاحتياطيات أن تتضاعف لو توفرت النزاهة والحساب والعقاب وغاب الفساد. وليست عائدات النفط هي العائدات الوحيدة التي تحصل عليها البلاد، ويتم العبث بمعظمها. فوفقا لخبير هولندي فإن 75% من الإيرادات الضريبية التي يمكن أن توظف في بناء آلاف المدارس، وإطعام ملايين الجائعين، تذهب للجيوب الخاصة وان الإصلاحات المطلوبة في القطاع الضريبي يمكن أن توفر أن تم تنفيذها، المليارات للخزينة العامة للدولة.
وكان بإمكان اليمن، وما زال بإمكانها توظيف بعض عائدات النفط في تحقيق نهضة شاملة تبدأ بالتعليم مرورا بالصحة، ثم تمتد إلى باقي القطاعات بما في ذلك أمن السواحل اليمنية، وامن الموانئ والطرق وغيرها. وكان بإمكان عوائد النفط الكبيرة، لو تم توظيفها اقتصاديا التوظيف الأمثل، أن تغير كثيرًا من حياة الفقر الشامل التي يعيشها معظم اليمنيين. كما كان بإمكان فوارق أسعار النفط التي حصلت عليها اليمن في العقد الأول من الألفية الثالثة، كنتيجة للزيادات الهائلة في أسعار النفط أن تقفز باليمن من الفقر الشامل إلى النهوض الشامل لو أنه تم إستخدامها الإستخدام الأمثل.
وكان يمكن للثمانية مليار دولار، التي تمثل الإحتياطي النقدي للبلاد في هذا الوقت أن تغير الكثير لو أنه تم إخراجها من خزائن البنوك الأجنبية، وإستثمارها في تحقيق النهوض. ولو حدث ذلك، لتحولت اليمن من نقطة معتمة على وجه الكرة الأرضية إلى حزمة من الضوء تزيد من تميز كوكب الأرض عن غيره من الكواكب الأخرى. وما كان لليل اليمن أن يكون حالكا، ومخيفا، ومحبطا، كما هو الآن، وما كان لنهار اليمن أن يكون عامرا ببؤس الأطفال المشردين، وبعمال الأرصفة الباحثين عن عمل وبأفواج المتسولين عند إشارات المرور وفي أبواب الجوامع وفي الأسواق.
وصحيح أن اليمن لا تملك من الموارد المائية ما تملكه مصر، أو سوريا، أو العرق، أو الولايات المتحدة. لكن اليمن ليست مجرد أشجار قات، وجبال جرداء، وسماء نادرًا ما تمطر. لم تكن كذلك في عهد السبئين، والحميريين، والمعينيين، أو في عهد دولة بني رسول، أو في عهد الدولة الصليحية ..فما الذي حدث لسد مآرب الذي بدأت عملية إعادة بنائه في الثمانينيات من القرن العشرين، ولم تنته حتى اليوم؟ هل كان مجرد قنبلة إعلامية ملئت حياة اليمنيين ضجيجاً لسنين ثم تلاشت؟ ولماذا تصب وديان اليمن في البحرين الأحمر والعربي ولا يتم الإستفادة القصوى من المياه الغزيرة التي تتدفق فيها في مواسم الأمطار بطريقة أو بأخرى؟
أين هي الأساليب الحضارية التي وظفتها الدولة الرسولية في إدارة المياه والحفاظ عليها؟ وأين هي وسائل الري الحديثة التي تحافظ على المخزون المائي؟ وأين هو التخطيط الزراعي؟ وأين الإدارة الحديثة للموارد المائية؟ وماذا عن خيار تحلية ماء البحر؟ ولماذا يتم تبديد مياه اليمن الجوفية في زراعة منتجات يتم تصديرها إلى الخارج لتباع بأسعار هي اقل من تكلفة المياه التي يتم تبديدها في زراعتها؟ والى متى يظل الماء موردا خاصاً بالأقوياء القادرين بحكم النفوذ، والإمكانات على حفر الآبار ودون الحاجة حتى إلى ترخيص؟ والى متى سيظل اليمنيون يحاولون الإجابة على السؤال الخاص بمن يملك المياه الجوفية وهل هو الدولة، أم المواطنين الذين يملكون الأراضي التي تقع تحتها المياه؟
والموارد ليست فقط مخزونات الذهب الأسود، والأنهار التي تتدفق صيفا وشتاء، ففي اليمن شواطئ على البحرين الأحمر والعربي يزيد طولها عن الألفي كيلو متر وتؤهل اليمن للتحول إلى دولة منتجة ومصنعة ومصدرة للأسماك. وإذا أضفنا إلى تلك السواحل الجزر اليمنية في البحرين الأحمر والعربي، وفي خليج عدن، والتي يبلغ عددها 182 جزيرة، منها 150 جزيرة في البحر الأحمر، فإن تلك السواحل والجزر تؤهل اليمن لأن تصبح محطة سياحية من الدرجة الأولى. كما يمكن لسواحل اليمن وجزرها أن تضيء ليل البحرين الأحمر والعربي وان تحول اليمن إلى ميناء كبير تمر عبره التجارة العالمية وتضاهي أن لم تتفوق على كل من دبي وهونج كونج. ألم يكن ميناء عدن ثاني ميناء في العالم ذات زمان؟ فما الذي يمنع التاريخ من أن يعيد نفسه في عصر العولمة والطائرة وسفن الفضاء؟
وتطاول جبال اليمن عنان السماء. ويمكن لتلك الجبال أن تتحول إلى حدائق معلقة تعانق السحاب، وتخلب أنظار السواح. وإذا كان اليمنيون القدامى قد طوعوا الجبال عبر التاريخ، وبنو القلاع والحصون المنيعة لتقيهم شر الغزاة، والسدود والحواجز المائية لتوفر لهم حاجتهم من الماء، والمدرجات ليزرعوا عليها أنواع الحبوب والخضروات، فلماذا لا يتمكن أحفادهم من تطويع تلك الجبال وتسخيرها في بناء حضارتهم الخاصة التي تصل عصور التميز الحضاري والعلمي والثقافي ببعضها البعض؟ وتكتنز جبال اليمن في أحشائها الكثير من المعادن التي لم يكتشفها بشر حتى الآن والتي يمكن أن تحول اليمن إلى منجم كبير للمعادن. فلماذا يموت اليمنيون فقرًا وجبالهم الخضراء والجرداء مليئة بالكثير من الموارد؟!
وفي اليمن الكثير من الأميين، لكن اليمنيين ليسوا أغبياء ولا جبناء ولا مترددين. لقد برزوا وتميزوا أينما حلوا..فكان منهم خيرة التجار والمتفوقين والعلماء والعقول الساعية للتغيير. ثم إن الأمية ليست صفة وراثية تلتصق بالإنسان مثل لون البشرة، أو طول القامة، أو عرض الجبهة. الأمية محنة تفرض على الإنسان بسبب الظروف التي يولد وينشأ فيها.
وصحيح أن اليمن بحاجة إلى الكفاءات. لكن الصحيح أيضا أنها لم تستفد حتى الآن من العقول والكفاءات التي تمتلكها على ندرتها، فالكفاءات مركونة ومعطلة والقدرات الخلاقة مغيبة. ووصل الحال باليمن إلى أن أصبحت كما وصفها أحد الأجانب جوهرة بيد فحام. لكن اليمنيين كشعب ليسوا فحامين، ولم يخلقوا ليكونوا كذلك، فقد كانوا سباقين إلى الحضارة والمدنية والى الثورات والديمقراطية والحرية والوحدة.
وصحيح أن اليمنيين يواجهون تحديات ..لكن تلك التحديات ليست من قبيل التحديات التي لا يمكن التغلب عليها. ثم "أن التحديات هي سر نهضات الأمم. ولولا التحديات لما وجدت الحضارات، ولما كانت هجرات الشعوب واكتشافها لمواطن جديدة تصلح للحياة." وليس هناك شعب أو أمة لا تواجه تحديات. لكن الفرق بين الشعوب أو الأمم هو في الطريقة التي تستجيب بها كل منها للتحديات التي تواجهها. فهناك فرق كبير بين الطريقة التي إستجابت بها الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة فرانكلين روزفلت (1932-1945) للكساد الكبير وخطر النازية، والطريقة التي إستجابت بها الولايات المتحدة بقيادة جورج بوش الإبن (2001-2008) لخطر الإرهاب. وكما يرى ارنولد توينبي في كتابه "دراسة التاريخ"، فإن "الأفراد المبدعين و القادة الملهمين والفئة ذات الرؤية والتصور - والتي تطرح رؤية للمستقبل وحراك لمواجهة التحديات – هم المعول عليهم في عملية المواجهة. فإذا انقادت لهم الأغلبية - سواءً عن طريق المشاركة في المعاناة والخبرة أو عن طريق التقليد والمحاكاة الآلية -قادوا هذه المجتمعات إلى التغلب على ما يواجهها من عقبات "
لقد أن الأوان لأن يكتشف اليمنيون خير بلادهم الكثير، وغناها الوفير، وعبقرية إنسانها الذي لا يقدر بثمن. ولا يمكن لليمنيين أن يحلوا مشاكلهم خارج حدود بلادهم، لا يمكن لأحفاد الغزاة والفاتحين أن يتحولوا إلى عمال نظافة، أو سواقين في دول الجوار، لان ذلك لن يحل مشاكلهم. قد يؤمن لهم طعام يومهم، لكنه لن يمكنهم من تحقيق الأمن، أو الشعور بالرضا عن النفس. ولا يمكن لليمنيين حل مشاكلهم خارج حدود بلادهم، وحتى وأن تمكنوا فإن ذلك لن يمكنهم من الوقوف مع غيرهم على نفس المستوى، ولن يمكنهم من بلوغ أقصى ما يمكنهم بلوغه. الحل الحقيقي لمشاكل اليمن واليمنيين يكمن داخل حدود اليمن.. في باطن أرضها، وفي سمائها، وبحارها، وجبالها، ووديانها.
لقد كانت اليمن تسمى ب"العربية السعيدة." وقد أن الأوان لأن تخلع هذه البلاد عن جسدها رداء البلد "الأفقر" في العالم العربي، والأكثر أمية والأشد تخلفا. وعلى اليمنيين أن يدركوا أن ما يعيق نهوضهم ليس ندرة موارد بلادهم، ولا تضاريسها الوعرة، أو موقعها الجغرافي، بل تكمن عوائق النهوض في أعماقهم. وحتى يتجاوز اليمن فقره الشامل لا بد لكل يمني من أن ينظر بعمق إلى ضميره ويسأل نفسه مرة واحدة: ما الذي يعيق هذا البلد ويمنعه من الخروج من دائرة الفقر إلى دائرة الغني ومن نفق التخلف الى افق الرقي والتقدم؟ وعليه أن يجيب بصدق مع الذات، ومع الوطن، والتاريخ. ثم يبدأ بعد ذلك في أداء دوره في التغيير المطلوب.
وإن لم يحدث التغيير الآن، فقد لا يحدث أبدًا، لإن القادم من الأزمات أسوأ من القائم. والتغيير ليس مسئولية المتعلمين دون الأميين، ولا الأغنياء دون الفقراء، ولا الحزبيين دون المستقلين، ولا المسئولين دون المواطنين، ولا سكان المدن دون سكان الريف. فالتغير المطلوب فرض عين على كل شخص بحسب قدرته. ومن كل حسب ما تمكنه موارده المادية، ومهاراته، ومعارفه من عمله. فالطوفان القادم لن يبقي ولن يذر ولن يميز بين غني أو فقير، أو بين متعلم أو جاهل، أو بين رجل وامرأة، أو بين وطني وغير وطني.
وبالتغيير وحده يمكن لليمنيين إستعادة حاضرهم المسلوب، وتأمين مستقبل أطفالهم. وبالتغيير وحده يمكن لليمنيين أن يضمنوا أن أطفالهم لن يخلقوا ناقصي الوزن، أو يموتوا في السنة الأولى من العمر، أو قبل بلوغ السنة الخامسة، وأن نسائهم لن يمتن عند الوضع. وبالتغيير وحده يضمن اليمنيون أن أطفالهم لن يعيشوا أميين وعاطلين عن العمل، ولن يسقطوا ضحايا للمجاعات والحروب الأهلية، وأنهم سيفخرون بهم، وسيترحمون عليهم بعد موتهم، وسيحملون رسالة التغيير من جيل إلى جيل..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق