الخميس، 17 نوفمبر 2011

الشعوب تريد اسقاط الطغاة... فماذا تريد الجيوش؟


د. عبد الله الفقيه
استاذ العلوم السياسية بجامعة صنعاء

قامت في الوطن العربي ابتداء من ديسمبر 2010  وحتى  اليوم خمس ثورات  في خمس دول عربية (تونس، مصر، اليمن، ليبيا،  وسوريا)، و نجحت  حتى التاريخ في اسقاط الحاكم  الدكتاتوري ثلاث ثورات (تونس، مصر، وليبيا).  وقد تحقق النصر لاثنتين من  تلك الثورات (تونس ومصر)  بتوظيف اساليب النضال السلمي بينما اضطرت الثورة الثالثة (ليبيا) ومنذ البداية الى حمل السلاح وطلب الدعم العسكري الخارجي وان كان ذلك الدعم محدودا.  وما زالت  الثورتين اليمنية والسورية، رغم وجود توظيف محدود للعنف  في الدفاع عن النفس وليس لإسقاط النظام، تحافظان الى حد كبير على سلميتهما، الإ ان  مستقبل الثورتين  ما زال ورغم مرور شهورا عديدة منذ قيامهما يكتنفه الغموض.  وما زالت الثورتان، بسبب لجوء النظامين اليمني والسوري مع اختلاف  في الدرجة الى توظيف ادوات العنف في مواجهة الاحتجاج السلمي، تنزفان دما ودموعا.  
عوامل نجاح الثورة السلمية
يمثل  نجاح  الثورة في اي بلد حصيلة لعدد كبير من المتغيرات، لكنه يمكن القول في  السياق العربي على سبيل الإفتراض  ان  الجيش  في اي دولة  يمثل العامل الأهم  في تحديد ليس فقط امكانية قيام الثورة السلمية، بل ايضا  التكلفة المادية والبشرية لعملية اسقاط النظام القديم، وكذلك امكانية مضي قوى الثورة في بناء الدولة الديمقراطية بطريقة سلسة وآمنة وخلال فترة معقولة.  لقد نجحت الثورة التونسية في الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي  بسرعة كما يرى البعض بسب  ضعف الجيش وبعده النسبي عن السلطة القائمة، وهناك ما يبعث على التفاؤل  بان  الثورة التونسية  ستواجه في سعيها  لبناء الدولة الديمقراطية تحديات اقل من نظيراتها في الدول العربية الأخرى مع ملاحظة ان ضعف الجيش في الحالة التونسية قد يكون له  آثاره السلبية على عملية بناء الدولة المدنية.
ونجحت الثورة السلمية في مصر في فترة قصيرة كذلك لإن  الجيش المصري يعتبر من وجهة نظر البعض ولأسباب كثيرة  بما في ذلك طبيعة الدور التاريخي والعقيدة القتالية اقرب نسبيا  الى "جيش الدولة" من خلال استقلاله النسبي عن اسرة مبارك والنخبة السياسية المسيطرة. ويأمل الكثيرون ان تمضي  الثورة في مصر في بناء الدولة الديمقراطية دون المرور بنفس التجربة التي مرت بها تركيا  حتى وقت قريب حيث ظل الجيش وصيا على  الأمة يتحرك للإطاحة بالأنظمة المنتخبة متى  بدا له ذلك مناسبا.
وعلى العكس من الدور المفترض للجيشين التونسي  والمصري في نجاح الثورتين السلميتين في الإطاحة بالحاكم الفرد باقل تكلفة ممكنة،  فإن الجيش  مثل في حالة ليبيا وما زال يمثل في حالتي اليمن وسوريا عائقا امام نجاح الثورة السلمية في تحقيق هدفها الأول وهو اسقاط الحكم الفردي الدكتاتوري. وبينما اضطرت الثورة الليبية منذ البداية الى حمل السلاح  لتحقيق هدفها الأول فإن الوضع في الحالتين اليمنية والسورية ما زال يجمع بين التوظيف الواسع للثورة السلمية من جهة  والتوظيف المحدود جدا لأدوات العنف في حماية الثورة السلمية والدفاع عن  النفس من جهة اخرى وان كان هناك بالطبع ما يبعث على الاعتقاد بان سوريا ولنفس الأسباب ستسير على نفس خطى  ليبيا.
جيش السلطة وجيش الدولة
يقدم المفكر العربي عبد الإله بلقزيز ثلاث صور لعلاقة الجيش بالسلطة في الوطن العربي هي: "جيش السلطة"، "سلطة الجيش"، و "الجيش الأهلي." ففي الصورة الأولى  وهي السائدة في العالم العربي بحسب بلقزيز فان الجيش كمؤسسة من مؤسسات الدولة  يتم الاستيلاء عليه من قبل النخبة الحاكمة، وتعمل تلك النخبة على اعادة تعريف وظيفة الجيش خارج نطاق وظيفته الأصلية، ثم تقوم بتوظيف الجيش للحفاظ على استمراريتها وقمع المجتمع والمعارضة عند اللزوم.
اما في الصورة الثانية، فإن الجيش يصبح هو السلطة وتتحول السلطة ذاتها الى اداة بيد الجيش. ومع ان الصورة الثالثة لا تبدو واضحة عند بلقزيز الا انه يمكن القول ان الجيش في هذه الصورة  يتحول الى مجرد مليشيات تابعة لمراكز القوى او العصبيات أو الشخصيات المتصارعة داخل المجتمع.   
والصور الثلاث السابقة للعلاقة بين الجيش والسلطة قد لا تكون مفيدة بسبب تداخلها وحضورها المتزامن مع بعض التفاوت في درجة الحضور والتأثير في كل دولة عربية تقريبا. كما تحضر ايضا الى جانب تلك الصور وان بشكل جنيني صورة الجيش الوطني المرتبط بالدولة والأمة.   وقد يكون من المناسب بسبب ذلك ان يتم النظر الى الصور الثلاث التي يقدمها بلقزيز على انها درجات مختلفة من السوء لجيش يرتبط بالسلطة سواء اكانت تلك السلطة  محتكرة من قبل الفئة القابضة على الدولة او موزعة بين عدد من الفاعلين والأخيرة أسوأ.  
الجيش والثورة
بالرغم من ان هناك بعض المحاولات،  التي يصعب توصيفها بالدراسات، للجيوش العربية وعلاقتها بالسلطة في كل بلد الإ ان العلاقة بين الجيش والثورة تبدو غائبة عن مجال البحث في العالم العربي  ربما لإن  الثورة ذاتها كانت حتى نهاية العام الماضي امرا يستبعد حدوثه  في هذا الجزء من العالم. ومع انه يمكن القول على سبيل الإفتراض ان دور الجيش يمكن ان يكون ايجابيا وداعما للثورة  عندما يكون قد اصبح جيشا للدولة وليس للسلطة الحاكمة الإ ان القبول بهذا الإفتراض يترتب عليه القبول بافتراض آخر وهو ان نجاح الثورة السلمية في اي قطر عربي  يرتبط بدرجة تمأسس  الدولة—اي ان تكون الدولة قد وصلت الى درجة معقولة من التطور يتحقق معها  الفصل النسبي بين الدولة ومؤسساتها المختلفة من جهة،  وبين الأشخاص والجماعات الذين يمارسون السلطة من جهة أخرى.
كما ان القول بان الجيش يمكن ان يكون داعما  للثورة اذا كان قد وصل الى مرحلة يغدو فيها جيشا للدولة وليس للسلطة الحاكمة لا يخلو من تناقض في السياق العربي. فقيام دكتاتورية آل مبارك في مصر واستمرارها لقرابة ثلث قرن  في ظل جيش قد يميل الكثيرون الى رؤيته كجيش دولة وليس جيش سلطة لا بد ان  يثير ولو بعض التساؤل ليس فقط حول علاقة الجيش بالسلطة ولكن ايضا حول درجة تطور الدولة ذاتها لأنه لا يمكن ان يكون هناك  جيش للدولة  دون ان توجد الدولة ذاتها ككيان مستقل يتمتع بدرجة معقولة من الاستقلال النسبي عن السلطة السياسية. فاذا كانت الدولة ذاتها قد وجدت بقدر معقول من التطور والتمايز فان قيام دكتاتورية فردية او اسرية واستمرارها لثلث قرن يصبح امرا  يصعب فهمه وان كان السقوط المفاجئ والسريع لمبارك تحت اقدام الثوار يمكن ان يكون انعكاسا وان جاء متأخرا بعض الشيىء لدرجة التطور الذي بلغته الدولة المصرية.
لقد كان لويس الرابع عشر يمثل السلطة السياسية في فرنسا  في القرن  السابع عشر وعندما قال مقولته الشهيرة "انا الدولة والدولة انا" كان يقصد بالتأكيد بان الدولة كمؤسسات وكجيش لا توجد بمعزل عن شخصه. وكان من الصعب جدا على اي ثورة سلمية ان تنجح في فرنسا خلال القرن السابع عشر. وفي الحالات التي يتماهى فيها  الأشخاص والجماعات الذين يمارسون السلطة مع الدولة ويصبحون هم الدولة كما كان حال فرنسا في القرن السابع عشر، فإن  دور الجيش  لا بد ان يكون معيقا  للثورة السلمية في مراحلها المختلفة. لكن الوضع في اي قطر عربي في القرن الحادي والعشرين يبدو اكثر تعقيدا مما كان عليه الوضع في فرنسا القرن السابع عشر مع استثناء حالة ليبيا (وربما سوريا ايضا) التي  بدا فيها العقيد القذافي  ونظامه الأسري اكثر اغراقا في الماضوية والنرجسية من لويس الرابع عشر.
والحال اننا لا نعرف الكثير عن علاقة الجيش بالثورة في اي بلد عربي. ولا نعرف بدرجة معقولة من اليقين ان كان  موقف الجيش من الثورة بالفعل هو العامل الحاسم في قيام الثورة ونجاحها في اسقاط الحاكم الفرد بطريقة سلمية ام ان المسألة تتصل بعوامل اخرى اكثر أهمية من الجيش مثل وجود طبقة وسطى  ووجود قناعات عابرة للانقسامات الاجتماعية والسياسية والجغرافية داخل المجتمع. كما اننا لا نعرف بدرجة كافية من اليقين ان كان  موقف الجيش المصري من الثورة السلمية يرتبط بطبيعة علاقة ذلك الجيش بالسلطة السياسية والدولة ام يرتبط بتوجهات وتطلعات وطموحات قيادات عسكرية معينة.
لكن  ما نعرفه اليوم بالغريزة وليس بالعلم هو انه عندما يتم بناء الجيش حول اشخاص او حول هويات دون الوطنية، وهو ما يبدو واضحا في حالات ليبيا، سوريا، اليمن، الأردن، المغرب، والجزائر فإن الجيش في هذه الحالة يمكن ان يمثل عقبة كأداء في طريق نجاح الثورة السلمية وهو ما قد يدفع بالثوار الى تبني خيار العنف  في البداية دفاعا عن النفس ثم في النهاية لإسقاط النظام. ويؤدي توظيف الثوار لأدوات العنف وغياب التوازن في القوة بين النظام الدكتاتوري من جهة وقوى الثورة من جهة اخرى ولجوء النظام الى  قتل المدنيين العزل للضغط على الثوار الى التدخل الدولي كما حدث في ليبيا وكما يتوقع ان يحدث في سوريا وربما في اليمن ايضا.   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق