الاثنين، 27 ديسمبر 2010

في الذكرى الواحدة والعشرين لسقوطه نيقولاي تشاوشيسكو: نهاية متوقعة لصعود غير متوقع!

د. عبد الله الفقيه، عن صحيفة اليقين
المكان: غرفة شبه خالية من الأثاث في القاعدة العسكرية في تيرجوفيستا، رومانيا.
الزمان: الخامس والعشرين من ديسمبر 1989 (يوم عيد ميلاد المسيح عليه السلام).
أما المناسبة فمحاكمة سريعة لزوجين اعتبرا من أشد طغاة القرن العشرين، وهما الينا ونيقولاي تشاوشيسكو. كان السؤال الأكثر تكرارا خلال المحاكمة هو ’’من أمر بإطلاق النار؟’’ وكانت الجرائم المتهم بها الزوجين كثيرة..إعطاء أوامر بقتل المتظاهرين..موت النساء والأطفال والشيوخ بسبب الجوع....تبديد ثروات البلاد في مشروعات عكست جنون العظمة بينما لم يجد أطفال رومانيا الدواء ولم يجد الناس الكهرباء. ’’لماذا خربت البلد بهذا الشكل؟ لماذا أمرت بتصدير كل شي؟ لماذا جوّعت الفلاحين؟ لماذا أمرتهم بتصدير ما يحصدون في حين أنهم لا يجدون ما يقتاتون به؟’’ كانت الأسئلة كثيرة. ولم يكن هناك أجوبة. كان ملاذ تشاوشيسكو في كل مرة يواجهه فيها محاكموه بسؤال إدانة هو أنه لا يعترف بشرعية المحكمة ويطالب بمحاكمته أمام البرلمان الروماني مردداً ’’أنا رئيس رومانيا...أنا القائد العام للجيش.’’ وخلص المحققون إلى أنه وبنفس الطريقة التي رفضت بها أسرة تشاوشيسكو الحوار مع الشعب فإنها رفضت التعاون مع المحكمة.
لم يبدو على الزوجين، كما وصفهما أحد الكتاب، أنهما كانا يقدران الوضع الحرج الذي وصلا إليه. وكانا كما وصف ذلك الكاتب حالهما في المحكمة، يرتديان المعاطف الشتوية ويتحدثان كما لو أن التاكسي الذي سيقلهما إلى دار ’’الأوبرا’’ ينتظرهما عند الباب وعداد الأجرة يعمل، وكما لو أن مجموعة من قطاع الطرق أفسدت عليهما الرحلة. كان نجم ألينا، المساعد الهام لتشاوشيسكو والشخص الثاني في الدولة ورئيس المجلس الوطني للبحث العلمي، قد سطع بسرعة وعلى العكس من زوجها كعلم من أعلام ’’الكيمياء’’ على المستوى الدولي. فقد انتخبت عضوة في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في عام 1972، ثم عضواً في المكتب السياسي للحزب في عام 1973. وقد تمكنت خلال السنوات الأخيرة من حكم زوجها من السيطرة التامة عليه وعلى شئون الدولة والحزب وخصوصا بعد أن اعتلّت صحته واعتمد عليها في كل شي. وتمكنت (إلينا) كما فعل زوجها من قبلها من بناء هالة حول شخصيتها.
وكانت إلينا كما قيل الأكثر جفافا خلال المحاكمة. ’’لا ينبغي أن تسأل امرأة عن عمرها.’’ هكذا صرخت في وجه المحقق عندما سألها عن عمرها. ورفضت وضع القيود على يديها وهي تخرج من الغرفة شبه الخالية من الأثاث التي تم محاكمة الزوجين فيها. كان المحققون قد حاولوا الفصل بين الزوجين بعد قراءة حكم الإعدام الصادر ضدهما بعد إدانتهما بجرائم القتل الجماعي، لكن أيلينا رفضت فصلها عن الرجل الذي تزوجته دون افتراق لمدة خمسين عاما..’’نذهب معا...’’ قالت إلينا بإصرار وحزم، ثم سحبت حقيبتها اليدوية وأحكمت إغلاق المعطف الشتوي الذي ترتديه. وما إن خرج الزوجان من الغرفة حتى انهالت عليهما زخات الرصاص وأسقطتهما في بركة من الدم.
كان شاعر تشاوشيسكو الرسمي ادريان باونيسو قد قال في قصيدة يمدح فيها تشاوشيسكو:


يا أبناء رومانيا...
إذا سألكم شخصا ما..
لماذا اجتمعتم هنا
وبمن تحتفون
ولماذا تحملون هذا الرجل في قلوبكم وأفكاركم وكلماتكم
ولماذا تحبونه كل هذا الحب
فأجيبوا ..
نحن نحبه لنضاله وإنسانيته


لكن باونيسو كتب بعد سقوط تشاوشيسكو يهجو نفسه قائلا:


ككل ضعيفي القيم والأخلاق، مدحته بلا فائدة
المهرج الكبير—القائد الذي ولد من جديد
وبنصف انحناءة...لحست مؤخرته
عش طويلا محبوبنا نيقولاي..


الخطبة الأخيرة
المكان، ميدان الجمهورية في العاصمة الرومانية بوخارست.
الزمان: 21 ديسمبر 1989.
المناسبة، خطبة أخرى لتشاوشيسكو لم يكن حتى ليخطر على باله بأنها ستكون خطبته الأخيرة. كان حوالي 100 ألف شخص قد تجمعوا لتأييد الرئيس. وكانت المناسبة هي خروج مظاهرة مناهضة لتشاوشيسكو يوم 16 ديسمبر 1989 في مدينة ’’تمسوارا’’ احتجاجا على اعتقال الأب (لازلو توكس) . وقد أمر تشاوشيسكو يومها وفي الأيام التالية قوات الجيش والأمن بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين. وسقط الكثير من الضحايا نتيجة لذلك. وكان الحشد قد جاء إلى ميدان ’’الجمهورية’’ ليعبر عن دعمه للرئيس في مواجهة معارضيه.
وأطل تشاوشيسكو على الحشد من بلكونة اللجنة المركزية لحزب العمال الروماني. وبدأ في إلقاء كلمته..ومضت ثمان دقائق فقط على بدء الكلمة التي وصف فيها تشاوشيسكو المشاركين في مظاهرة الـ16 من ديسمبر 1989 بالخونة. وفجأة بدأ صوت خافت وسط الحشد يردد ’’تمسوارا...يسقط القتلة’’ ومعه بدأ لون وجه تشاوشيسكو يتغير. ومع ازدياد حدة الصوت ’’تمسوارا... تمسوارا..يسقط القتلة’’ ازداد وجه تشاوشيسكو تلوناً ليعكس وقع الصدمة التي أصابته. وأوقفت المحطات التلفزيونية والإذاعية البث الحي للكلمة. وسرعان ما انسحب تشاوشيسكو إلى داخل المبنى خائفا مذعورا من شعبه الذي لم يعد يخاف من الرصاص. وبدلا من أن يفر تشاوشيسكو في ساعتها ولحظتها، ارتكب آخر أخطائه وقرر الانتظار حتى اليوم التالي.
وعندما قرر الزوجان تشاوشيسكو الفرار في اليوم التالي كان الوقت قد أصبح متأخراً جداً. ففي الـ22 من ديسمبر 1989 قرر الجيش الانحياز إلى الشعب. وعندما فرّ الزوجان تشاوشيسكو على طائرة هيلوكبتر خاصة أقلعت من على سطح اللجنة المركزية للحزب تمكن الجيش، الذي بدأ يخوض حرب شوارع مع شرطة تشاوشيسكو السرية، من إلقاء القبض عليهما. وبعدها بيومين تم عقد محاكمة سرية سريعة وضعت النهاية لحياتهما. أما الثورة التي امتدت إلى سائر أنحاء رومانيا فقد استمرت من الـ21 وحتى الـ24 من ديسمبر.
كان عدد سكان رومانيا حوالي 23 مليون شخص حينها، وكان تشاوشيسكو خلال 25 عاما في السلطة قد تمكن من تحويل ربع سكان البلاد إلى مخبرين، ومن تبديد ثروات البلاد في بناء انفاق تحت الأرض في العاصمة الرومانية بوخارست حتى تتمكن أجهزته الأمنية باستخدامها من التجسس على المواطنين وحتى تتمكن قواته من الانتشار السريع عند الحاجة. كان تشاوشيسكو يخاف من الاغتيال لكنه كما يبدو لم يكن يخاف وبعد 25 عاما من الكذب، والفساد والإرهاب من سقوط نظامه حتى بعد أن بلغت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية ذروتها. وفي ديسمبر 1989 كان الرومانيون بعد سبع سنوات عجاف قد وصلوا إلى مرحلة باتوا يفضلون معها الموت على القبول بحكم تشاوشيسكو.
نجاح غير متوقع
أنتخب تشاوشيسكو في 22 مارس 1965 سكرتيرا أول للحزب الشيوعي الروماني بعد ثلاثة أيام من وفاة جورجو ديجي الذي كان بمثابة الأب السياسي له. على الصعيد الخارجي، أنهى تشاوشيسكو المشاركة النشطة لرومانيا في حلف وارسو الذي ضم دول المعسكر الشرقي. وعندما غزت قوات الحلف تشيكوسلوفاكيا في عام 1969 أدان تشاوشيسكو ذلك الغزو. وأدان كذلك الغزو السوفييتي لأفغانستان في عام 1979. و حظي تشاوشيسكو بشعبية كبيرة بين الناس بسبب تبنيه لخط سياسي مستقل عن الخط السوفييتي في السياسة الخارجية لبلاده.
أما على الصعيد الداخلي فقد تمكن خلال فترة قصيرة من تركيز السلطة داخل الدولة وداخل الحزب في يده ويد أسرته التي قادتها (الينا) زوجته والتي أسند إليها المناصب الهامة في الحزب والدولة. لم يكن تعليم الينا التي ولدت لأسرة فقيرة يتجاوز الصف الرابع الابتدائي. ومع ذلك فقد حصلت فيما يعد على الدكتوراه في الكيمياء الصناعية ليس بفضل قدراتها العقلية ولكن بفضل نفوذها ونفوذ زوجها. فقبل أسبوع واحد من منح الينا الدكتوراه تم تغيير القانون الذي ينص على أن يدافع المتقدم للدكتوراه عن أطروحته في جلسة استماع علنية، وتم الاكتفاء بتقديم أطروحة مكتوبة. وبدأت أبحاث الينا التي يكتبها لها معاونوها تنشر في الدوريات العلمية في الداخل والخارج وتناقش في المؤتمرات. وكان يلاحظ أن الينا، عندما تحضر مناقشة الأوراق والأبحاث التي تحمل أسمها، سرعان ما تبدأ في النعاس.
وبدأت في رومانيا وفي العالم واحدة من أسوأ ديكتاتوريات القرن العشرين. وعملت عائلة تشاوشيسكو على التلاعب بالاقتصاد الوطني ونشر الانحلال القيمي وعزل البلاد عن المجتمع الدولي. واستخدم تشاوشيسكو الشرطة السرية للتحكم بالشعب وأسرته للسيطرة على الحكومة، ولم يقبل بأي معارضة لنظامه. وبدد الطاغية ثروات البلاد في مشروعات لا جدوى اقتصادية منها عكست جنون العظمة الذي أصابه. ومن أمثلة تلك المشروعات قراره بهدم قرابة 7000 آلاف من أصل 13000 قرية رومانية ونقل 11 مليون روماني من منازل الأسرة الواحدة إلى شقق في عمارات سكنية حديثة.
وتراكمت الديون الخارجية على رومانيا بسبب قروض السبعينيات. وفي محاولة منه لسداد الديون الخارجية أمر تشاوشيسكو في عام 1982 بتصدير المنتجات الزراعية والصناعية وكل ما يمكن تصديره إلى الخارج. كان تشاوشيسكو يحاول تفادي ظهور عجز بلاده في سداد ديونها وهو ما سيعني أن ’’عبقري رومانيا، ودانوب الأفكار—نسبة إلى نهر الدانوب— ومصدر الضوء’’ كما كان يلقب، قد فشل في إدارة اقتصاد بلاده وخذل الطبقة العاملة التي يتحدث باسمها واخضع البلاد للمؤسسات النقدية الدولية.
وقد أدت سياسات التقشف التي تم تبريرها بالحفاظ على سيادة رومانيا إلى حدوث عجز في الغذاء والطاقة والسلع الأساسية. واقترب الرومانيون كثيرا من المجاعة. وقد قدر أحد معارضي تشاوشيسكو معدل الوفيات السنوي بسبب الجوع والبرد وعجز المواد الأخرى بحوالي 15 ألف نسمة. وبحلول منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، كما ورد في إحدى المؤلفات، استعاضت فاترينات محلات بيع الأطعمة عن الأطعمة بصورها، وتجمدت أنابيب التدفئة ثم انفجرت في المباني، وتجمدت أنابيب المياه وتوقف الماء عن التدفق فيها.
ومما زاد من سخط الرومانيين هو حقيقة ان تشاوشيسكو لم يوزع أعباء سياسات التقشف بالتساوي. فقد عاش آل تشاوشيسكو والمقربين منهم كما لو كانوا أباطرة العصر الحديث. استوردوا الأغذية والملابس الفاخرة من الخارج، ونظموا الحفلات الباذخة في كل المناسبات، وأكلوا طعامهم في أطباق من الذهب. وفي الوقت الذي سكن فيه الرومانيون في شقق صغيرة ضيقة وعجزوا عن شراء الحلوى لأطفالهم كان آل تشاوشيسكو يعيشون في قصور فارهة. وكان لدى تشاوشيسكو وحده 40 قصرا. وفي الوقت الذي لم يكره فيه تشاوشيسكو شيئا كما كره الكنائس والصلوات والصليب فإنه لم يحب في حياته شيئا كما أحب رؤية نصب تذكاري لشخصه.
وكان من أغرب السياسات التي تبناها العبقري تشاوشيسكو هي سياسة الحمل الإجباري رغبة منه في زيادة سكان رومانيا إلى 30 مليون نسمة بحلول العام 2000. وقد أصدر لذلك الغرض قرارا اعتبر بموجبه ’’الحمل’’ إلزاميا والجنين ملكاً للمجتمع. وتم حظر التعليم والتوعية المتصلة بالجوانب الجنسية وحظر تداول الكتب التي تتحدث عن تخطيط الأسرة، وحظر الإجهاض ووضع الكثير من القيود على الطلاق. وبين الحين والآخر كان يتم تطويق النساء في سن الإنجاب في مواقع العمل وأخذهن إلى العيادات لعمل اختبار حمل بحضور ممثلي الدولة أو ’’شرطة العادة الشهرية’’ كما اسماها بعض الرومانيين من باب التندر. وتم فرض ضرائب على النساء اللاتي ليس لديهن أطفالا حتى وان كنا غير قادرات على الحمل. وكان شبيبة الحزب الشيوعي الروماني يجرون استطلاعات بين الناس ويسألونهم ’’كم مرة تمارس الجنس في الأسبوع’’ ويسألون النساء ’’لماذا فشلت في الإنجاب؟’’
طفولة معذبة
ولد تشاوشيسكو في 26 يناير 1918 بقرية سكروناستي جنوب غرب رومانيا. أما الينا بترسكيو فولدت في 7 يناير 1919 في جنوب رومانيا. انتقل تشاوشيسكو في عام 1929 وكان حينها في الـ11 من عمره إلى بوخارست، وهناك عمل في محل لصنع الأحذية. وفي عام 1932 التحق الصبي بحزب العمال الروماني وبدأ نشاطه المعادي للفاشية والمناصر للشيوعية. وقد ألقي عليه القبض وسجن المرة بعد الأخرى بسبب أنشطته السياسية. ففي عام 1936 مثلا حكم عليه بالسجن لحوالي ثلاث سنوات. أما إلينا ابنة المزارع البسيط والتي سيتحول يوم ميلادها فيما بعد إلى عيد وطني وإجازة رسمية فقد وجدت صعوبة بالغة في متابعة دراستها بعد أن رسبت في جميع المواد عدا التطريز والموسيقى والرياضة. وقد اضطرت لترك المدرسة في وقت مبكر والعمل في الأرض التي استأجرها والدها. ثم بعد ذلك انتقلت إلى بوخارست. والتقى تشاوشيسكو بالينا في إحدى الخلايا السرية للشيوعيين، وتزوجها في عام 1939 ثم عمل الاثنان معا كفريق واحد طيلة حياتهما.
وتعرف تشاوشيسكو وهو في السجن في عام 1943 بالسياسي الشيوعي جورجي جيرودجي والذي سيصبح في المستقبل بمثابة الأب السياسي له. وقد فر من السجن في عام 1944 قبل الاحتلال السوفييتي لرومانيا بقليل. ومع وصول الشيوعيين في رومانيا إلى السلطة في عام 1948 عين تشاوشيسكو في نفس العام وزيرا للزراعة وهو الموقع الذي ظل فيه حتى عام 1950. وخلال الفترة 1950-1954 شغل موقع وكيل وزارة الدفاع. وتدرج تشاوشيسكو في المواقع الحزبية شيئا فشيء. وبصعود رفيقه في السجن جورجي ديجي إلى منصب السكرتير العام للحزب الشيوعي أصبح تشاوشيسكو الرجل الثاني في الحزب.

*استاذ العلوم السياسية في جامعة صنعاء

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق