الأربعاء، 18 مارس 2009

قراءة في كتاب الفقيه "اليمن المطلوب تغيير: أرقام الفقر الشامل تضع اليمن جنوب الصحراء


عن صحيفة الناس وموقع ناس برس 16 مارس 2009

صدر الأسبوع الماضي عن صحيفة العاصمة كتاب "اليمن المطلوب تغييره" للدكتور عبد الله الفقيه استاذ العلوم السياسية بجامعة صنعاء، وقد نجح الكتاب منذ الوهلة الأولى في اثارة حفيظة الأجهزة الأمنية التي احتجزته ومنعت توزيعه في المؤتمر العام الرابع للاصلاح متحججة تارة بالصورة المعكوسة على الغلاف والتي قيل انها تشبه القصر الجمهوري، وتارة أخرى بعنوان الكتاب.

تبدأ مقدمة الكتاب بنكتة، ويبدأ فصله الأخير بنكتة كذلك، وما بين النكتتين صورة مكثفة، تعبر عنها الأرقام الصماء التي لا يمكن اتهامها بالإنحياز، لشعب فقير يعيش في بلد غني. وتتجلى بشاعة الأوضاع التي يعيش فيها الإنسان اليمني من خلال المقارنة التي يعقدها المؤلف بين أوضاع اليمن وأوضاع الدول العربية الأخرى بمن فيها تلك الدول التي كانت في فترة من الفترات تعيش أوضاعا أسوأ من أوضاع اليمن.

"يتم، في معظم دول العالم" كما يقول المؤلف، "التربيت على مؤخرة المولود عندما يخرج من رحم أمه لكي يبدأ في البكاء. وعندما يبدأ المولود في البكاء، فإن ذلك يؤخذ كأمارة هامة على أنه ولد ’حيا’ وأنه يتمتع بصحة جيدة. أما في اليمن التي كانت تسمى بالعربية السعيدة، وكما تقول الطرفة، فلا يتم التربيت على مؤخرة الطفل، وإنما يتم بدلا عن ذلك الهمس في أذنه بعبارة "مرحبا بك إلى اليمن." وعندها يبدأ المولود في البكاء. و نادرا ما يعني بكاء المولود اليمني أنه بصحة جيدة. وكثيرا ما يعني فقط أنه ما زال حيا. وفي الوقت الذي يتوقف فيه بكاء معظم أطفال العالم بعد لحظة الولادة، فإن بكاء معظم أطفال اليمن يستمر معهم طوال حياتهم القصيرة مقارنة بحياة غيرهم من أطفال العالم."

وتتعدد الأسباب الموجبة لبكاء الطفل اليمني عند الولادة، فهناك احتمال كبير أنه لن يتلقى اللقاحات الضرورية لتحصينه ضد الأمراض، وهناك احتمال بأنه لن يلتحق بالصف الأول الإبتدائي، لأن اثنين فقط من كل ثلاثة يفعلون ذلك، وأنه سيعيش حياته أميا. وهناك إحتمال كبير بأنه قد يدخل الصف الأول لكنه لن يمكث في المدرسة حتى يتم الصف الخامس، وحتى إذا تمكن من إكمال الصف الخامس، فهناك احتمال كبير يصل إلى 90% بأنه سيغادر مقاعد الدراسة قبل أن يحصل على الثانوية العامة. وحتى إذا كان من ضمن المحظوظين من السكان الذين يتمكنون من الحصول على الثانوية العامة، فإن إحتمال الإلتحاق بالجامعة يظل ضئيلا جدًا. فمن بين كل 100 شخص من السكان، يتمكن 3 فقط من دخول الجامعة والبقاء فيها حتى يوم التخرج."

لقد حاول المؤلف كما يقول "أن يرسم صورة لواقع اليمن واليمنيين ليس من منظور القلة المترفة ولا من منظور الأغلبية المسحوقة ولكن من منظور الواقع كما هو، وكما تعبر عنه الأرقام الصماء، وكما يدركه الكثير من الناس."

ولا يطلب المؤلف من القارىء أن يوافق على ما ورد في الكتاب بل يدعوه في حال شعوره بالشك في الآراء والأرقام والشهادات الواردة في الكتاب أن يقترب من الواقع الذي يعيش فيه وان ينظر بسعة أفق داخل نفسه وفي ظروف حياته وحياة أبناء مجتمعه حتى يتمكن من الوصول إلى يقينه الخاص. ولا شيء يساعد الإنسان، كما يقول المؤلف، على تقييم واقعه مثل مقارنة حاله بحال غيره من الناس، ليس فقط في مجتمعه، ولكن أيضا في المجتمعات الأخرى. "ويمثل وعي الإنسان بواقعه بخيره وشره وبنقاط قوته وضعفه الخطوة الأولى نحو التغيير. .ففي البداية كانت الفكرة..ثم كانت الكلمة...ثم يكون الفعل."

الفقر الشامل

يبدأ الفصل الأول من الكتاب برسالة معايدة تلقاها المؤلف من الأستاذ احمد المنيعي وفيها يقول "لقد استبدلنا الغاز بالحطب من الجبل، وبمبة دفع الماء بالدلو والعجل، والسيارة بالجمل، والماء تنقله النساء على رؤوسهن في غالب القرى والعزل، ولم نعد نفكر في البناء أو شراء الفلل. ونحن في اليمن ودولة الشلل، لا دخل ولا عمل، وأعرف أشخاصا وتعرف مثلهم بيوتهم عطل، حتى من البصل."

ثم يمضي المؤلف بالحديث عن الفقر الشامل الذي ينظر اليه على أنه " فقر في الغذاء.. فقر في التعليم..فقر في المعرفة..فقر في الصحة..فقر في الدخل..فقر في فرص العمل..فقر في الكهرباء..فقر في المجاري...في الماء..في الضوء..في الطرق العصرية...وفي غير ذلك.

ويتجسد الفقر الشامل في حياة اليمنيين بأكثر من مظهر وفي أكثر من شكل ولون. فهو يتجسد، أولا وقبل كل شيء في غياب الطعام الكافي الذي يحقق من خلال تنوع مكوناته الإشباع المطلوب للجسم الإنساني. ويتجسد على صعيد التعليم، في عجز حوالي نصف السكان البالغين 15 سنة فأكثر عن القراءة والكتابة. كما يتجسد أيضا في وجود مئات الآلاف من الأطفال الذين لا يلتحقون بالمدارس، وفي وجود مئات الآلاف من الأطفال الذين يلتحقون بالمدارس ثم لا يتمكنون بعد ذلك من إكمال تعليمهم، وفي ازدحام الفصول، وفي ضعف مستوى الخريجين من مختلف المراحل التعليمية، وفي ...وفي...وفي...قائمة طويلة لا تنتهي من مظاهر فقر التعليم..

ويتجسد فقر الصحة في حياة اليمني في صيحات الألم المدوية التي يطلقها والتي لا تجد رغم قوتها من يسمعها..وفي انتشار الأوبئة والأمراض وعدم قدرة غالبية السكان الحصول على الدواء...ويحضر الفقر في حياة اليمني على شكل قصر في العمر وفي الطول وانخفاض في الوزن ولون مميز للبشرة. كما يحضر الفقر في المعدلات المرتفعة لوفيات الأمهات والأطفال الرضع والأطفال تحت الخامسة...

ويتجسد الفقر الشامل في حياة الإنسان اليمني في غياب الدخل، وفي ضآلة ذلك الدخل إن وجد، وفي عدم قدرة اليمني على مواجهة تكاليف المأكل والمشرب والملبس والتعليم والرعاية الصحية ناهيك عن الكهرباء والصرف الصحي والماء النقي الصالح للشرب والطريق الصالح للسفر ووسائل التكنولوجيا كالتلفزيون والكمبيوتر وغيرها.."

وضع اليمن

حققت اليمن في عام 2007-2008 المرتبة رقم 153 من بين 177 دولة تم قياس مستوى التنمية الإنسانية فيها. ولو كان مقياس التنمية الإنسانية عبارة عن سلم طويل يتكون من 177 درجة، والدرجة أعلى السلم رقمها واحد والدرجة أسفل السلم رقمها 177، والدول عبارة عن أشخاص يقف كل واحد منهم على درجة من الدرجات بحسب ما يتمكن من تحقيقه في مجالات التعليم والصحة والدخل، فإن اليمن تكون قد صعدت 24 درجة فقط وبقي امامها 153 درجة. ومقارنة بالدول العربية الأخرى، فإن اليمن تكون قد حصلت على المرتبة الأدنى على السلم. وحصلت الكويت على المرتبة رقم 33، وقطر على المرتبة 35، والإمارات على المرتبة 39، والبحرين على المرتبة 41، وليبيا على المرتبة 56، وعمان في المرتبة 58، والسعودية في المرتبة 61.

وإذا كانت الجغرافيا قد وضعت اليمن في جنوب غرب الجزيرة العربية، فإن مستوى الفقر الشامل يضعها بين دول جنوب الصحراء الأفريقية. ولذلك استحقت اليمن وبجدارة لقب أفقر دولة في العالم خارج أفريقيا..كما استحقت أيضا لقب الدولة الأفقر في العالم العربي وفي الشرق الأوسط.

وإذا استمر النمو في مجالات التعليم، والصحة، ودخل الفرد بنفس المعدلات الحالية، فإن اليمن ستحتاج إلى 120 سنة لتصل إلى نفس المستوى الذي تتمتع به دولة الكويت اليوم. وسيحتاج اليمني إلى حوالي 100 عام ليصل إلى مستوى التعليم والصحة الذي يتمتع به جاره العماني اليوم.

وتكمن مأساة اليمن من وجهة نظر المؤلف في انه في الوقت الذي يتقدم فيه الآخرون فإن اليمن تتراجع إلى الخلف. وإذا تم تشبيه عملية التنمية بدرجات سلم طويل والدول بمجموعة من الرياضيين يحاول كل منهم في كل دورة من دورات اللعب تحقيق مركز أفضل بين المتسابقين، فإن الظاهرة المخيفة هي أن الرياضي اليمني يتراجع دائمًا إلى الخلف، اي إنه يشارك في الركض كغيره، لكنه لا يفوز، ولا يحقق تقدمًا مع مرور السنوات، ولا يحافظ على نفس المركز الذي يحققه كل سنة.. ففي الوقت الذي كان فيه ترتيب اليمن على نفس المقياس في عام 2003 هو 148، فان ذلك الترتيب تراجع إلى المركز رقم 149 في عام 2004 ثم إلى المركز 151 في عام 2005 ثم إلى 153 في عام 2007. وما زالت رحلة السقوط الإنساني في اليمن ماضية رغم وصول برميل النفط في فترة من الفترات إلى قرابة الـ140 دولاراً للبرميل.

والحديث هنا، كما يؤكد المؤلف، ليس عن كأس آسيا للشباب ولا عن بطولة كأس العالم لكرة القدم ولا عن مباراة في تنس الطاولة بين اليمن ودولة أخرى، وإنما هو حديث عن حياة الإنسان..عن مستوى التعليم الذي يحصل عليه وعن الرعاية الصحية التي ينعم بها وعن الدخل المادي الذي يتوفر له ويمكنه من الحصول على حاجاته الأساسية.

صناعة الفقر

لا ينظر مؤلف الكتاب الى الفقر الشامل في اليمن على أنه قدر لا فكاك منه. فالفقر في جانب كبير منه صناعة بشرية ينتجه البعض ليستهلكه البعض الآخر. وللتمثيل فقط، فإن الفساد، بكافة أشكاله، يؤدي إلى شفط الموارد العامة التي يمكن الإستفادة منها في بناء وتجهيز المدارس وفي دعم الفقراء وفي تحسين الخدمات الصحية وبناء الطرق وغير ذلك من البرامج، وتحويلها إلى الجيوب الخاصة. كما أنه يساهم، في ظل غياب أنظمة الثواب والعقاب والحماية للمواطنين، في تحويل القضاة وأعضاء النيابات العامة وعقال الحارات وأقسام الشرطة ومدراء المدارس والعاملين فيها والمرافق الصحية ومرافق البلديات وموظفي الحكومة بشكل عام إلى نظام متكامل للتصيد والتهطش والإفقار المنظم للمواطن.

وتتعدد أسباب الفقر في المجتمع اليمني. منها ما يتصل بالبيئة التي يعيش فيها الشخص الفقير.. ومنها ما يتصل بالفقير ذاته.. ومنها ما يتصل بالدولة والسياسات التي تتبعها. وفي حين تركز الحكومة عند الحديث عن الفقر على لوم الضحية، وهو في هذه الحالة الفقراء، حيث تتحدث عن كبر حجم الأسر، وضعف مهارات الأشخاص، وغيرها، يركز كتاب اليمن المطلوب تغييره على الأسباب العامة للفقر والتي تمثل نتاج سياسات وممارسات وتوجهات رسمية داخلية وخارجية.

على الصعيد الداخلي، تم تركيز السلطة داخل الحزب الواحد، وفي داخل الحزب الواحد تم تركيز السلطة في يد الفرد الواحد. وأدى الفساد السياسي إلى تركيز السلطة في أيادي فئات سياسية وإجتماعية معينة. وسُمح للفئات المسيطرة سياسيًا بالإستيلاء على الموارد العامة وعم الفساد البر والبحر، وتم تحويل المدارس والمستوصفات وأجهزة الدولة إلى نقاط يتم من خلالها إمتصاص دخول المواطنين وتحويلها إلى جيوب الفاسدين..تم تحويل التعليم إلى ضرب من ضروب الدعاية السياسية وإفراغه بالتالي من بُعده المعرفي والمهاراتي. وقد انعكس ذلك التسييس للتعليم في التركيز على أعداد المدارس وأعداد الخريجين بدلاً من التركيز على جودة التعليم.

واتصفت السياسات الإقتصادية والمالية الحكومية التي اُتبعت إبتداءً من عام 1995 بالعشوائية والتخبط والإنتقائية ومعاداة الفقراء. وبدلاً من أن تحقق تلك السياسات النمو الإقتصادي الكفيل بخلق فرص العمل وتحسين مستويات دخول الناس، أدت من خلال تخفيض الدعم الحكومي عن المشتقات النفطية والمواد الغذائية بما في ذلك البر والدقيق، إلى توسيع رقعة الفقر وتعميقه. فقد أخذت تلك السياسات ما بجيوب الفقراء ووضعته في جيوب الفاسدين من مسئولي الدولة.

لقد قال المسئولون الحكوميون للناس في اليمن ما معناه: اغمضوا عيونكم..فلما أغمضوا عيونهم، قالوا لهم: "سنسحب الدعم عن الدقيق والقمح وعن البترول والديزل وسنوجه المليارات التي سيتم توفيرها من سحب الدعم عن تلك السلع إلى بناء المصانع والمدارس والمستشفيات، ومحطات توليد الكهرباء بالطاقة النووية والرياح والغاز، والمدن السكنية.. وسينمو الإقتصاد ويخلق فرص العمل ويتحسن الدخل..وعندما تفتحون عيونكم لن يهمكم إن كانت أسعار الغذاء والمحروقات قد زادت."

وظل الناس مغمضي العيون في إنتظار المفاجأة، وطال الإنتظار. وعندما فتح الناس أعينهم في النهاية لم يجدوا أمامهم، وخلفهم، وتحتهم، ومن فوق رؤوسهم سوى الفقر. لقد ذهب كبار المسئولين بالثروة والوظائف والأراضي والمزارع والمنح الدراسية والرحلات العلاجية إلى الخارج..وتركوا للشعب الفقر..كان العالم قد انقسم إلى قسمين: قسم صغير يملك كل شيء من قصور ألف ليلة وليلة إلى الأراضي والمزارع والشركات والفنادق والحسابات ذات الأرقام الفلكية في الداخل والخارج؛ وقسم كبير لا يكاد دخله يفي بحاجته الأساسية من الغذاء والدواء والملبس.

وحيث أن النمو الإقتصادي المحدود الذي شهدته اليمن خلال السنوات الماضية قد كان، وما زال، مرتكزًا على النفط، فإن ذلك النمو لم يؤد إلى تحسين أوضاع الفقراء وذلك لأن قطاع النفط لا يوظف سوى نسبة صغيرة من السكان ومن العمال المهرة الذين لا يأتون من الفئات الفقيرة. ولم تؤد الزيادة في النفقات الحكومية، الناتجة عن زيادة عائدات النفط، إلى تحسين أوضاع الفقراء لان الإنفاق الحكومي تركز إما في المناطق الحضرية أو في المناطق الريفية التي يسكنها السكان الأفضل حالا من الناحية إلاقتصادية.

وقادت السياسات الخارجية لليمن إلى عزل البلاد وفقدانها في بعض السنوات للدعم الخارجي وتراجع ذلك الدعم في سنوات أخرى، وإلى طرد مئات الآلاف من العمال اليمنيين من المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى. وتحول اليمني في مطارات وموانئ وسفارات معظم الدول إلى مدان حتى يُثبت براءاته..مدان بالإرهاب أو التخريب أو التهريب أو حتى التسول.

أسئلة صعبة

وتتعدد الأسئلة التي يطرحها المؤلف. لقد ولد اليمنيون في جنوب الجزيرة العربية، فلماذا تجعلهم أوضاعهم التعليمية والصحية ومستوى دخولهم يعيشون في دول جنوب الصحراء الأفريقية؟! وما هي الأسباب التي جعلت اليمن الدولة الأفقر خارج افريقيا والدولة الأفقر في العالم العربي؟! ما الذي حدث لسد مآرب الذي بدأت عملية إعادة بنائه في الثمانينيات من القرن العشرين، ولم تنته حتى اليوم؟ والى متى يظل الماء موردا خاصاً بالأقوياء القادرين بحكم النفوذ، والإمكانات على حفر الآبار ودون الحاجة حتى إلى ترخيص؟ والى متى سيظل اليمنيون يحاولون الإجابة على السؤال الخاص بمن يملك المياه الجوفية وهل هو الدولة، أم المواطنون الذين يملكون الأراضي التي تقع تحتها المياه؟ وإذا كان اليمنيون القدامى قد طوعوا الجبال عبر التاريخ، وبنوا القلاع والحصون المنيعة لتقيهم شر الغزاة، والسدود والحواجز المائية لتوفر لهم حاجتهم من الماء، والمدرجات ليزرعوا عليها أنواع الحبوب والخضروات، فلماذا لا يتمكن أحفادهم من تطويع تلك الجبال وتسخيرها في بناء حضارتهم الخاصة التي تصل عصور التميز الحضاري والعلمي والثقافي ببعضها البعض؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق