الأربعاء، 23 أكتوبر 2019

سياسات البقاء الترامبية!



(1)
منذ شرع الديمقراطيون في الكونجرس الأمريكي في التحقيق بجرائم أو جنح محتملة يمكن ان يكون الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد ارتكبها، وهو يعمل على إعادة التموضع على الصعيد الدولي عن طريق حشد التوترات والأزمات الدولية، لعل وعسى أن يضغط بها على خصومه في الداخل. ويعتمد ترامب في هذا الجانب على الكثير من الحلفاء الدوليين وفي مقدمتهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورؤوسا الصين وكوريا الشمالية وحكام السعودية والإمارات، ويمكنه الرهان كلما اقتضى الأمر حتى على الإيرانيين والأتراك والأكراد. أما الخليجيين، فإنهم أقرب إلى ترامب من كل قريب، وجاهزون دائما للمهمات الصعبة التي يتم تكليفهم بها. ففي كل عمل دنيء تجدهم سباقون على غيرهم.

وتعد الإدارة بالأزمات بمثابة أسلوب ترامب المفضل والذي يربك به الأصدقاء والأعداء على السواء داخل أمريكا وعلى المستوى الدولي، وإن كان أحيانا يبالغ به كثيرا. ويعد المستوى الدولي أكثر اتساعا وأكثر تسامحا مع أساليب ترامب في ممارسة التوحش بحكم طبيعته غير المستأنسة. فالأزمة مع الصين بسبب التجارة، وبغض النظر عن ما هو حقيقي وما هو مسرحي فيها، يتم إشعال أوارها وتصعيدها عندما يكون ترامب في حاجة إليها ثم تنطفئ النار تحتها فجأة، وبدلا من الحديث عن المزيد من التعريفات الجمركية على السلع، يسود الحديث عن إمكانية التوصل إلى اتفاق تجاري.
لقد كان احد المسئولين الصينيين صادقا عندما شكى من أن ترامب هو الذي يرفض التوصل إلى اتفاق نهائي مع بلاده. فالأزمة مع الصين في التحليل النهائي هي أقوى أوراق ترامب ربما بسبب التأثير العميق الذي تتركه عند اشتعالها ليس فقط على المستوى الدولي ولكن وهو الأهم في الداخل الأمريكي وخصوصا في أسواق الأسهم وأسواق النفط التي تتحرك صعودا وهبوطا. أما مسرحية هونج كونج فمستمرة بلا توقف، ولا يبدو أن الصينيين يتضايقون منها.

(2)

عمل السعوديون وادارة ترامب، في إطار سياسات البقاء التي يطبقها ترامب، على تصعيد الهجوم على شركة ارامكوا السعودية بكل الطرق بما في ذلك اتهام ايران بتنفيذه. وتحدثوا عن نتائج ثم عن تحقيقات ثم عن نتائج وأوصلوا الصراع كما اعتقد كثيرون حول العالم إلى نقطة الانفجار. وانغمس الأمريكيون مرارا في دراسة ارسال 3 جندي اضافي الى السعودية، ورحب السعوديون بدورهم مرارا بالضيوف الجدد.

وظن الناس بعد أن عمر ترامب سلاحه Locked and Loaded بأن الأزمة بين السعودية وامريكا من جهة وايران من جهة ثانية قد وصلت الى نقطة اللارجوع. وبعد كل السن اللهب المتصاعدة، أنتهي كل شيء فجأة وكأن المسألة اسطورة من اساطير الأولين! وحتى أسعار النفط التي قيل أنها ارتفعت سرعان ما عادت إلى ما كانت عليه. وفي حين ظن الناس أن السعوديين على وشك غزو إيران، بدت نغمة السعوديين فجأة أكثر تصالحية بعد أسابيع من ضجيج الطبول الفارغة.



ويمكن قول ذات الشيء عن ثورة المصريين على عبد الفتاح السيسي، وعن ثورة العراقيين التي نسي كاتب السيناريو من شدة العجلة أن يضع لها أهدافا. وتبخرت الثورة المصرية ضد السيسي. كما تبخرت ايضا صور ملايين العراقيين التي لم يتضح حتى الان ماذا كانت مطالبها بالضبط.

ولا يختلف الأمر بالنسبة لأزمة سد النهضة بين مصر وإثيوبيا وإن كان التصعيد الذي شهدته الأخيرة قد أتسم بأنه سيئ السيناريو والإخراج. فقد بدا الخلاف التصعيدي جد مفتعل، وغير مقنع، والدليل على ذلك اعلان السيسي بانه سيلتقي رئيس وزراء اثيوبيا في موسكو.

(3)

 ربما كانت أزمة العمليات العسكرية التركية في شمال شرق سوريا هي الأكثر ميلودرامية من بين الأزمات الدولية التي تحمل بصمات سياسات البقاء الترامبية. فقد اختلط في هذا العمل الميلودرامي الرديىء في معظم الأحيان والمثير في احيان قليلة الجانب المسرحي الفكاهي بالضغائن والأحقاد السوداء التي عبر عنها فريق "المرددين." لكن أداء أبطال هذا العمل الدرامي لم يكن على المستوى المطلوب وبدا في الكثير من الأحيان أن المؤدين يرتجلون المواقف والتعبيرات مما اضعف ادائهم إلى حد كبير. وبينما جرت العادة في الفصول السابقة أن يهدد الأتراك باجتياح شمال شرق سوريا، بينما يعارض الأمريكيون الخطوة، وينتهي الأمر باتفاق ما بين الأتراك والأمريكيين على عمل مشترك لتحييد مخاوف الأتراك.

أما هذه المرة، فقد اختلفت الديناميكية. فقد أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ردا على التهديدات التركية المعتادة، بأنه سحب القوات الأمريكية من شمال شرق سوريا، وهو ما يعني إعطاء الإشارة للأتراك بأن يبدأوا عملياتهم العسكرية. ثم هدد ترامب بسحق الاقتصاد التركي إن قضى الأتراك على الأكراد، الأمر الذي فهم منه أن ترامب لا اعتراض لديه أذا قضى الأتراك على معظم الأكراد ولكن ليس كلهم. ولم ينس ترامب، في تبرير غير مباشر للعمليات العسكرية التركية، أن يشير إلى أن باراك اوباما هو الذي دعم مسلحي البي كي كي الذين تستهدفهم تركيا في عملياتها، وكان ادائه في هذه النقطة قويا لأنه كان صادقا وهو نادرا ما يصدق.

وبالغ فريق المرددين كثيرا في أداء أدوارهم وكشفوا عن ضغائن واحقاد مكبوتة ساهمت في الايهام بأن شيئا عظيما سيحدث خصوصا بعد دعوة اوروبية لمجلس الأمن الدولي لعقد جلسة خاصة لمناقشة ما أطلق عليه "الغزو التركي لسوريا." وجاءت تصريحات مصر والسعودية والإمارات وفرنسا وأمين عام الجامعة العربية واسرائيل لتعبر عن تناغم مثير للغرابة. فقد أدانت السعودية، مثلا عملية "نبع السلام" وهو الاسم الذي أطلقته تركيا على عمليتها في شمال شرق سوريا، ووصفتها بـ"العدوان التركي." 

ولم تكتف مصر بالإدانة بل طالبت أيضا باجتماع عاجل للجامعة العربية. وحتى جامعة الدول العربية، التي ظن كثيرون أنها ماتت وشبعت موتا، عقدت اجتماعا على مستوى وزاراء الخارجية وأصدرت بيانا قويا لم يعترض عليه سوى قطر والصومال ولاحقا ليبيا والمغرب. وربما ان البيان كتبه بومبيو كالعادة!

وفي حين كانت الولايات المتحدة قد سحبت قواتها من شمال شرق سوريا كما أعلنت، فقد ذكرت وسائل أعلام أمريكية أن القوات التركية هاجمت في 11 أكتوبر القوات الأمريكية الخاصة في شمال سوريا عن طريق الخطأ. وكان على أمريكا أن تسحب قواتها من شمال شرق سوريا مرة أخرى. وخرج ترامب هذه المرة مدافعا عن تركيا بشكل مبطن فقال أن الأكراد أطلقوا الإرهابيين لجر بلاده الى التدخل في شمال تركيا!

وبينما يواجه ترامب وادارته غدا الخميس الـ17 من اكتوبر واحدة من أسوأ فصول "اوكرانيا جيت" فإنه قد قرر للتغطية على الفضيحة التي تتكشف فصولها الصادمة ببطء شديد ارسال نائبه ووزير خارجيته الى انقرة، وقد رد السلطان اردوغان في تصعيد درامي ملحوظ انه لن يقابل نائب الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته احتجاجا على الإساءة التي لحقت باسرته في الكونجرس الأمريكي!!!!

(4)

يحصل دونالد ترامب كما سبق الاشارة في حلقة سابقة في محنته هذه على دعم من أطراف دولية كثيرة، وأحيانا من أطراف غير متوقعة. ففي رسالة تضامن مع ترامب في محنته، اعلنت طالبان أنها قتلت 8 جنود أمريكيين و10 افغان في هجوم على موكب عسكري، في رسالة مفادها ان الأمريكيين في افغانستان في خطر في ظل انشغال ترامب بالحفاظ على كرسييه. 

وبالمثل، فإن زعيم كوريا الشمالية أصبح يختبر الصواريخ على نحو يومي بينما يتولى ترامب بعد كل عملية اختبار طمأنة المجتمع الدولي بان تلك الاختبارات لن تؤثر على المحادثات الأمريكية مع كوريا الشمالية وكأن هناك من يهتم! 

وبينما اشتعلت حرائق الغابات المفتعلة في مناسبة مشابهة خلال العام الماضي في اسرائيل، فإنها هذا العام أنتقلت إلى لبنان، غير البعيد في موقعه عن اسرائيل.   

وهكذا تتصاعد الأزمات ثم تنطفأ، وفي بعض الأحيان تجد الأطراف نفسها في خضم عمل درامي لا تعرف ماذا يعني أو الى أين يقود لكنها بالرغم من ذلك تمضي في اداء دورها كما حدد لها أحيانا على مضض وإن كانت تحاول أن تسخر الدور لصالحها.

ولأن مثل هذه الأمور لم يعد من الممكن بعد "اوكرانيا جيت" أن تناقش بالتلفون ولا أن ترسل عبر السفراء، فقد أصبح خالد بن سلمان يذهب الى واشنطن ويعود من واشنطن في رحلات متكررة  لا تتعلق بالعلاقات السعودية الأمريكية ولكن بالطرق التي يمكن بها إنقاذ ترامب من ورطاته. 

وكان على رئيس الوزراء العراقي أن يطير فجأة الى الرياض بعد أن عاد خالد بن سلمان من واشنطن، ليتلقى التعليمات الخاصة بالثورة العراقية وما يجب عليه أن يفعله، ثم بعد عودته إلى بلاده اندلعت الثورة. وبعد رحلة لسفير النوايا السيئة خالد بن سلمان إلى واشنطن، طار سيد الكرملين إلى الرياض لتلبية دعوة سابقة للزيارة ولتلقي رسائل ترامب!

(5)

رغم أن الرئيس الديمقراطي باراك أوباما يعد المهندس الحقيقي للأزمة الخليجية لأسباب ليس هنا المكان المناسب لتناولها، ورغم أن الحزب الديمقراطي هو المستفيد الأكبر منها، إلا أن ترامب، وبحسب قواعد اللعبة السياسية الأمريكية،  قد تولى إطلاق صفارة الإنذار لبدء الأزمة خلال أول زيارة له إلى السعودية في مايو 2017.  ومع أن ترامب حرص خلال السنوات الأولى من حكمه، كما تقتضي السياسة الخارجية الأمريكية، على  لعب دور الوسيط غير النزيه، وعمل على تحقيق أقصى استفادة ممكنة من الأزمة  بحلب جميع الأبقار، إلا أنه حاول بدون حماس شديد وضع نهاية للأزمة بعد أن بدأت تنخر في شرعيته وقدرته على الهيمنة، لكن بدون تحقيق اي نجاح كبير بسبب تعنت وغطرسة محمد بن سلمان ومحمد بن زايد.  

وتغير الأمر فجأة بعد أن بدأ خصوم ترامب في مجلس النواب الأمريكي إجراءاتهم الهادفة لعزله.  فقد قرر ترامب تكتيل حلفائه الميسورين دوليا وفي مقدمتهم السعودية وقطر والإمارات في جبهة واحده خلفه. وبدأ باتخاذ إجراءات قسرية لمهاجمة الأزمة.

وفي هذا الإطار، وجه ترامب أجهزته الأمنية بغلق ألاف الحسابات الوهمية على تويتر وفيس بوك والتي كانت تستخدم في الحرب الالكترونية بين الدول الثلاث، وفرض ستارا حديديا على الذكرى الأولى لمقتل الصحفي جمال خاشقجي، وعمل على الحد من أنشطة رواد الشبكات الاجتماعية بكل الطرق، وأعاد التنسيق الأمني والعسكري الخليجي في معظم المجالات إلى ما كان عليه، وتم الضغط على القطريين لإلغاء أنشطة وفعاليات وسياسات تثير انزعاج السعوديين والإماراتيين!

وعلى الرغم من ذلك، فإن قدرة ترامب على توحيد الخليجيين في مهمة إنقاذه تبدو شبه مستحيلة وخصوصا بعد فشله في إلزام مسئولي إدارته، ليس فقط السابقين، ولكن الحاليين أيضا، في عدم التعاون مع التحقيقات التي تجريها بعض اللجان في مجلس النواب الأمريكي في الاتهامات ضده. وما يدل على ذلك هو أن التراشقات بين الدول الثلاث سرعان ما عادت إلى الواجهة، هذه المرة بسبب تباين المواقف حول العمليات العسكرية التركية في شمال سوريا، وقد لوحظ هذه المرة أن محمد بن زايد ولي عهد دبي هو الذي بدأ التراشقات.   

ومع أن محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي في السعودية،  يعتبر ترامب أفضل رئيس في تاريخ أمريكا يمكن أن يخدم مصالح السعودية ويعتبر أي مبالغ يمكن أن تنفقها المملكة، وأي مؤامرات يمكن أن تدبرها أجهزته لإنقاذ ترامب، بمثابة استثمار في رئيس يمكن أن يضع مصالح السعودية أولا بدلا عن مصالح أمريكا، إلا أنه لوحظ مؤخرا،  ربما بسبب تضعضع الوضع الداخلي لإدارة ترامب، أن الموقف السعودي بدأ يفقد حماسه. 

صحيح أن عزل ترامب سيكون له استحقاقات كبرى بالنسبة للسعوديين الذين القوا بكل بيضهم في سلته أو هكذا يبدو إذا ما عوملت السعودية كفاعل واحد، إلا أن ذلك ليس أسوأ ما يمكن أن يحدث لهم. فتورطهم في محاولات انقاذ ترامب، وربط حمارهم بجانب حماره، قد يكون له نتائج وخيمة على علاقاتهم بأمريكا ذاتها.   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق