السبت، 26 يوليو 2008

الخط الفاصل بين "الاستبداد" و"الديمقراطية"

د عبد الله الفقيه
تحتكر الدولة العربية اليوم مع بعض الاستثناءات القليلة هنا وهناك الإعلام في المجتمع ولا تسمح للأفراد والجماعات والقوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية الأخرى بامتلاك وسائل الإعلام المسموعة والمرئية أو بممارسة أي وظائف إعلامية مؤثرة بمعزل عن الدولة. ولا يعتبر هذا الاحتكار مجرد انحراف غير مقصود ولكنه يعبر في صميمه عن السياقات المختلفة لعلاقة الدولة بالمجتمع والحاكم بالمحكوم. فالدولة العربية تحتكر الإعلام باعتباره إحدى أدوات ومصادر السلطة في المجتمع العربي. فباحتكار الإعلام تحتكر الدولة العربية الاستبدادية أدوات التغيير والتحول في المجتمع. وتتمكن الجماعات التي تسيطر على الدولة من اسر وقبائل وأحيانا من عصابات "المافيا" والجماعات الإرهابية من خلال السيطرة على الإعلام والنظام التربوي والتعليمي من القيام بعملية غسل دماغ للأجيال ومن إعادة إنتاج الثقافة الوطنية بطريقة مواتية لبقاء الفئات المسيطرة على الحكم.
وتشهد المجتمعات العربية حالة صراع على السلطة والثروة تختلف درجتها من مجتمع إلى آخر. وحيث ان السلطة غالبا ما تكون في أيدي فئة معينة فان الفئة المسيطرة على السلطة غالبا ما تستخدم الدولة كأداة للإقصاء والقهر والقمع. وتعمل الفئات المسيطرة على الدولة على احتكار الإعلام لتمنع الفئات الأخرى في المجتمع من ان يصبح لها صوتا مسموعا. كما تحرص تلك الفئات على حجب المعلومات وقمع محاولات نشر المعرفة ورفع الوعي بين الناس. ويلاحظ ان الدولة العربية التي تحكم بطريقة "فرق تسد" وتحرص على إبقاء الفئات الاجتماعية المختلفة في حال صراع قد لا تبدي انزعاجا من قيام صحيفة معينة بتبني قضايا ومطالب فئة صغيرة لكنها تفقد صوابها وتصاب بالجنون عندما تبدأ تلك الفئة بتبني قضايا وطنية تهم كل الفئات.
وتقوم العلاقة بين الفئات المسيطرة على السلطة من جهة والفئات الاجتماعية الأخرى من جهة ثانية على الشك وضعف الثقة المتبادلة. وتلجأ الأنظمة العربية بسبب ذلك وفي محاولة لمواجهة انتفاضات الشعوب العربية الغاضبة الى التحالف مع الخارج والتودد إليه وبطريقة تقود غالبا إلى الارتهان للخارج والتفريط بمصالح مواطني الدولة. ولذلك فان السياسات المختلفة بما في ذلك رفع القبضة الحديدية عن الإعلام العام مرهونة في الغالب بمواقف الخارج الضامن الأول لبقاء الأنظمة العربية.
ونتيجة لهيمنة الخارج على الداخل فقد أدت أحداث سبتمبر 2001 إلى طفرة في القنوات الفضائية العربية وبحيث وصل عددها إلى أكثر من 500 قناة ومعظمها تركز على إحداث تحول ثقافي يعمل على إضعاف الشخصية العربية ونسف مثلها وقيمها وفرض قيم العولمة عليها.
تحرير الإعلام
ليس هناك اتفاق بين دعاة تحرير الإعلام على تعريف محدد لعملية التحرير في السياق اليمني...لكن هناك مطالب تبدو متشابهة رغم اختلاف الأطراف التي تطرحها...فالمطلب الأساسي والجوهري الذي يمثل القاسم المشترك بين الداعين لتحرير الإعلام هو السماح للأفراد والهيئات والجماعات بامتلاك وسائل الإعلام المسموع والمرئي...وهناك مطلب ثان يختلف النشطاء حوله وهو المتصل بوضع الإعلام الرسمي الذي تذهب بعض التقديرات إلى انه يبتلع أكثر من 34 مليارا من الموازنة العامة للدولة. وتختلف الآراء بشأن الكيفية التي ينبغي من خلالها التعاطي مع الإعلام الرسمي لكنها تتفق على ان هذا الإعلام يمثل ثقبا أسود من ثقوب الفساد في البلاد..والفساد الإعلامي لا يقتصر على الجوانب المالية ولكنه يمتد إلى جوانب أخرى أكثر أهمية.
هناك من يرى ان الإعلام الرسمي ينبغي ان يخرج من وضعه الحالي والذي تسيطر فيه الأشباح على قراراته وتعمل على تسخيره في تزييف الوعي وغسل الأدمغة وزرع الفرقة وإثارة الفتن بين الناس وتسطيح أو مسخ الهوية وهدم قيم المجتمع لصالح قوة سياسية أو اجتماعية معينة. وتتجه الغالبية نحو المطالبة بإخضاعه لسلطة الشعب بترتيبات معينة وبحيث يتحول إلى سلعة عامة يستفيد منها الجميع، وعلى ان يتم بعد ذلك تخفيض الدعم المقدم له بالتدريج والعمل على إصلاحه بحيث يصبح مكتفيا ذاتيا. وهناك من يذهب ابعد من ذلك فيطالب بخصخصته لأسباب سياسية تتصل بسعي القوى السياسية والاجتماعية في كل المراحل إلى السيطرة على الإعلام وتسخيره لتحقيق أهدافها الخاصة.
وهناك من يرى بان البلاد ستظل بحاجة إلى إعلام رسمي خلال العقدين القادمين على الأقل ليعمل على ترسيخ مجموعة من الثوابت والقيم المشتركة بين الناس كقيم المواطنة المتساوية والمصلحة الوطنية والتسامح والمسئولية والتضامن والتعاضد وغير ذلك من القيم والثوابت التي لا يمكن تركها للأطراف المختلفة..
وتتضمن عملية تحرير الإعلام بالضرورة إزالة كافة القيود التي تحد من قدرة الناس على امتلاك وسائل الإعلام بكافة أنواعها ، التعبير عن الرأي، والحصول على المعلومات، ونشر تلك المعلومات. والإعلام الحر هو شرط أساسي لبناء مجتمع المعرفة.
مبررات التحرير…
يواجه الإعلام العربي الرسمي، في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات، تحديات كبيرة وهو يحاول دون نجاح مواكبة القنوات الفضائية الخاصة. فقد أدى ظهور قناة الجزيرة ابتداء من عام 1996 إلى حدوث تحول كبير في السوق الإعلامي الإقليمي والى رفع سقف الحرية والمهنية والتغطية. ووجدت الأنظمة العربية نفسها تتعرض لاجتياح إعلامي لا يقل في خطورته عن الغزو العسكري. وقد كان رد الفعل من قبل الأنظمة القادرة هو إطلاق قنوات فضائية مضادة، تبث في الغالب من الخارج، مع العمل في نفس الوقت على التركيز على قنوات التسلية والإلهاء لسحب البساط عن القنوات الموجهة سياسيا. ويتصف الإعلام الرسمي العربي المعروض في السوق الرسمي أو السوق السوداء بأنه عاجز عن المنافسة ولا يملئ الفراغ ولا يسد حاجات المواطن العربي الإعلامية وانه غير فعال وغير حقيقي ولا يلفت انتباه احد ودعائي فج وذو اتجاه واحد من الأعلى إلى الأسفل ومن الحاكم إلى المحكوم..وفوق ذلك فهو يكلف الخزينة العامة الكثير... ويذهب المتخصصون إلى القول بان الدولة العربية ستجد نفسها عاجلا أو آجلا مرغمة على التخلي عن دعم الإعلام العام وخصوصا بعد ان قررت بعض الحكومات رفع الدعم عن الرغيف..
وفي دولة مثل اليمن فانه وفي الوقت الذي يبتلع فيه الإعلام الرسمي المليارات فانك عندما تسأل حوالي 400 طالب داخل قاعة عن ما اذا كانوا يشاهدون القنوات اليمنية تفاجأ ب4 أو 5 أشخاص يرفعون أياديهم..وبالنسبة لمبررات تحرير الإعلام في الحالة اليمنية فإنها كثيرة. وقد عرض الأستاذ عرفات مدابش، رئيس تحرير موقع "التغيير نت" ومراسل إذاعة سوا الأمريكية، أهمها في ورقة بعنوان "الضرورات السياسية والتكنولوجية لتحرير الإعلام في اليمن" في ندوة نظمها موقع التغيير وملتقى المرأة للدراسات والتدريب في أغسطس من العام الماضي.. ويرى عرفات ان تحرير الإعلام هو حجر الزاوية بالنسبة للديمقراطية. وفي الوقت الذي يبدي فيه عرفات أسفه لمرور 17 عاما على الوحدة اليمنية وعلى تبني الديمقراطية دون ان يتم تحرير الإعلام فانه لا ينسى ان ينبه إلى أن الإعلام الحر هو الضمانة لتحصين وتعزيز التجربة الديمقراطية الناشئة وحماية الوحدة اليمنية والوطنية. وبالنسبة لليمنيين، فان تحرير الأعلام يمثل التزاما بالديمقراطية وبالتالي بالوحدة اليمنية لإن الديمقراطية والوحدة في الحالة اليمنية هما صنوان. فلا ديمقراطية بلا وحدة ولا وحدة بدون ديمقراطية.
وكان الأستاذ عبد الباري طاهر النقيب الأسبق للصحفيين اليمنيين قد عرض ورقة في نفس الندوة بعنوان "الإعلام اليمني بين الاحتكار والتعددية" مشيرا فيها، وفي تأكيد يعزز ما ذهب اليه عرفات من وجود ارتباط وثيق بين الديمقراطية وتحرير الإعلام، إلى ان الاستيلاء على الإذاعة في 26 سبتمبر 1962 قد كان "أهم من الاستيلاء على قصر دار البشائر" والذي اتخذه الإمام محمد البدر مقرا. وقد أيقن الإمام عند سماعه بسقوط الإذاعة، كما يذهب طاهر، أن نصف دولته قد سقط.
ومطالبة الإنسان العربي بتحرير الإعلام يمكن النظر إليها على أنها في المقام الأول تعبير عن إنسانيته وانه لا يقل شأنا عن الإنسان في أمريكا الجنوبية أو شرق آسيا..ولأنه كذلك فان من حقه ان يتحول من مجرد مستهلك للنماذج الإعلامية والثقافية التي يتم إنتاجها في مختلف أركان الأرض الى منتج لما يقوم باستهلاكه والى مشارك في إنتاج ما يستهلكه الآخرون.. ولا يمكن للإنسان العربي ان يركن على ما تنتجه الأنظمة العربية من نماذج لا هدف لها سوى تكريس التخلف والتسلط تحت مبرر حماية الوحدة الوطنية.. فمن حق الإنسان العربي ان يرسم لنفسه الصورة التي يراها مناسبة وان يطور القيم التي تشبع حاجاته المادية والروحية والتي تمزج بين الأصالة والمعاصرة.
ولا تقتصر مبررات وضرورات تحرير الإعلام في الحالة اليمنية على الجوانب السياسية والإعلامية والقانونية ولكن تمتد إلى الجوانب الاقتصادية وبالتحديد إلى أهمية تحرير الإعلام بالنسبة لاقتصاد السوق وبالنسبة لخلق بيئة استثمارية تتدفق فيها المعلومات بحرية وشفافية ويتم فيها الحد من الفساد الذي ينخر روح الدولة اليمنية..والى أهمية تحرير الأعلام كذلك بالنسبة للترويج الاقتصادي والسياحي وخلق فرص عمل للعاطلين. كما لا بد للحديث حول تحرير الأعلام ان يمتد إلى أهمية أو عدم أهمية تحرير الإعلام بالنسبة للجوانب الاجتماعية وخصوصا بالنسبة للتعددية الاجتماعية التي يتصف بها مجتمعنا وبالنسبة للحفاظ على الوحدة الوطنية ومواجهة الغزو الفكري والمحاولات الضارية لمسخ الهوية والتحصين ضد محاولات هزيمة الشعب اليمني والشعوب العربية نفسيا..
نشر ايضا في ايلاف بتاريخ 22 يوليو 2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق