د. عبد الله الفقيه
استاذ العلوم السياسية بجامعة صنعاءتقول احدى النكات اليمنية ان شيخا مدعيا اراد ان يظهر لأتباعه مقدار حزمه وشدة بأسه فوجه مرفقيه بقتل أمه، وفي اليمن مثل يضرب لمن يرد الحسنة بالسيئة يقول "لقد جازى فلان فلانا كما يجازي الحمار امه." وينطبق مدلول النكتة ومضرب المثل على علي صالح و "غزوة الحصبة" غير المظفرة. فقد اراد صالح مع نهاية عهده السيئ بكل المعاني والفاشل بكل المقاييس ان يظهر حزمه عن طريق استهداف قبيلته حاشد التي حكم لثلث قرن مرتكزا على "عصبيتها."
وما يبعث على الغرابة ليس سياسة احراق الجسور التي اتبعها صالح لسنوات طويلة مع الحلفاء والأعداء فقادته في النهاية الى عزلة في نفق يربط بين دار الرئاسة و"جامع التغيير" الذي كان يعرف في السابق بجامع "الصالح" والذي بناه صالح (الذي لم يكن ابدا صالحا كما يعني اسمه) نكاية بالزيدية التي اعلن عليها الحرب في العقد الأخير من ولايته. ما يبعث على الغرابة كل الغرابة هو استهداف صالح لـ"حاشد" التي دفعت ثمن ديولته وهي موالية ثم بعد تحولها الى المعارضة. فصادق الأحمر شيخ مشايخ حاشد الذي تحول في وسائل اعلام "علي بن عفاش" الى زعيم عصابة من قطاع الطرق قاد اول حملة عسكرية لمواجهة الأعداء الخارجيين لبن عفاش في عام 1979. وما كان "ابن الراعي" حتى بعد ان اصبح "ضابطا" في الجيش يمكن ان يصبح رئيسا لولا مدنية الشيخ الراحل عبد الله بن حسين الأحمر باني البيت الذي يتم استهدافه. ولو لم تكن حاشد قد انحازت الى صف الشعب ضد واحد من ابنائها في درس يجب ان يتعلم منه دعاة "الدولة المدنية" ما كانت حاشد قد تحولت في إعلام "ابن الراعي" بين عشية وضحاها الى مجموعة من العصابات وقطاع الطرق. وقد يقول قائل ان "عاق والديه" لم يستهدف حاشد ولكنه استهدف معارضيه من بيت الأحمر وذلك، لو صح، عذر اقبح من ذنب، لكنه على كل حال قول غير صحيح. فغير خاف على احد الدلالة الرمزية لمهاجمة منزل شيخ مشايخ قبيلة حاشد الذي كان وما زال وسيظل بيتا لكل اليمنيين.
لقد تحولت "غزوة الحصبة" الى سلسلة من الفضائح المخزية لرئيس مثل عهده فضيحة ممتدة. فعلى الصعيد العسكري بدا صالح وكانه قد ضرب راسه بجبل عيبان أو نقم. فقد قاد هاشم الأحمر وهو اصغر ابناء الشيخ الراحل عبد الله بن حسين الأحمر العشرة (والذي كانت احد الصحف الممولة من صالح تظهر صورته مع تعليق الى جانبها يقول انه يعمل حارسا لدى صالح) مجموعة من رجال القبائل تمكنوا خلال ساعات من السيطرة على ثلث المقرات الحكومية داخل صنعاء وفي مقدمتها وزارات الداخلية، والإدارة المحلية، والصناعة والتجارة، ومعسكر النجدة، ووكالة سبأ، والخطوط الجوية اليمنية وهي جهات تمترس بها البلاطحة في عدوانهم على بيت الأحمر. وتمكن مرافقوا الشيخ صادق خلال وقت قصير من اسر مئات الجنود. وبرهنت وقائع الغزوة غير المظفرة ان "ابن الراعي" قد يظل راعيا حتى وان وصل الى الرئاسة وان ابن الشيخ يظل شيخا حتى ولو عمل حارسا لدى ابن الراعي.
واذا كانت الفضيحة السابقة لم تكن كافية وحدها، فقد تم اكمالها بأخرى اكثر خزيا. فقد ارسل صالح واسطة مكونة من عدد من مشايخ اليمن بالإضافة الى رئيس جهاز الأمن السياسي وتقول بعض الروايات ان احد حراس صالح دس شريحة تساعد الصواريخ الموجهة في جيب احد الوسطاء لتكون دليلا لصاروخ تم فيما بعد اطلاقه عن بعد على وفد الوساطة بعد ان تأكد صالح شخصيا باتصال تلفوني بانهم اصبحوا في منزل الشيخ الأحمر. وقتلت صواريخ صالح الغادرة ومدافعه العشرات من ابناء حاشد ومن سكان المنطقة الأبرياء ومن الوسطاء. لكن شوكة الثورة التي يدعمها آل الأحمر والتي ما كان ليقوم لها قائمة لولا وطنيتهم وتضحياتهم لم تنكسر، وبينما سارع صالح للاختباء بعد ان اهدرت قبائل اليمن دمه جزاء له على ارتكاب ما تسميه القبائل بـ"العيب الأسود"، كان شيخ مشايخ حاشد يتجول في شارع الستين مؤكدا للثوار الشباب ومن موقع القوة بانه لا بد من المحافظة على الطابع السلمي للثورة.
ومع انقشاع غبار المعركة كان صالح، الذي يعتبر الفضيحة عرسا، يرسل الوساطة تلو الأخرى لاستعادة الوزارات التي خسرها في بضع ساعات وفي مقدمتها وزارة الإدارة المحلية. و بعد ايام قليلة من القتال كان اسم وملامح شيخ مشائخ حاشد، الذي لم يكن معروفا للكثيرين، قد سجل حضورا محليا واقليميا ودوليا وبكل اللغات، وهو ما آثار حفيظة احدهم فسارع الى الكتابة متذمرا من حضور المشايخ في وسائل الإعلام ومن صوت صادق الأحمر الذي غطى على صوت الثورة. ولو انه كان منصفا وينظر الى اليمنيين على انهم جميعا مواطنين بحقوق متساوية لكان اشار الى ان بيت الأحمر قدموا من الشهداء من ابناء قبيلتهم في بضعة ايام ما يساوي في حجمه العددي ما قدمه شباب اليمن في كل ميادين الحرية والتغيير خلال ثلاثة اشهر.
وكان يمكن لذلك الكاتب لو اراد الإنصاف ان يشير ايضا الى ان محاولة علي عفاش هدم بيت الشيخ الأحمر ليست حادثة معزولة عن تاريخ هذا البلد وهذه الأسرة وانها تمثل امتدادا لمحاولات سابقة تمتد لثلاثة قرون على الأقل. فقد حاول الأئمة مرارا وتكرارا هدم بيوت مشايخ آل الأحمر وتشريدهم في الأرض لكن الأسرة التي ارتبط اسمها بالثورة والتي يوصف كبيرها الراحل الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر في كتابات الغربيين باب الثورة اليمنية المعاصرة ظلت رغم كل ما لحق بها من مآسي وما قدمته من تضحيات مثل طائر الفينيق كلما ظن الطغاة انه مات فوجئوا به يبعث من جديد.
وبالنسبة لثوار اليسار الذين يدعون اليوم الى اقامة "الدولة المدنية" على جماجم المشايخ وعلماء الدين فلا يمثلون ظاهرة جديدة. فقد قتلوا المشايخ ورجال الدين خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ليقيموا دولة العدالة والمساواة كما قالوا، لكنهم فاجئوا الجميع بعدها بانهم وبعد ان قتلوا المشايخ ورجال الدين بدأوا بقتل بعضهم البعض موظفين ذات الشعارات التي برروا بها قتل خصومهم. ولذلك لن يخدع الناس بشعاراتهم اليوم بعد ان خدعوا بها بالأمس.
والدرس الذي يجب ان يتعلمه الجميع هو ان الدولة المدنية الحديثة التي يتشدق بها البعض وهو في فكره وفهمه وسلوكه بعيد عنها بعد السماء عن الأرض لا يمكن ان تكون هاشمية، ولا بكيلية، ولا حاشدية بالطبع، ولا جنوبية، ولا شمالية، ولا سنية، ولا سلفية، ولا اصلاحية، ولا دولة للصعاليك أو المماليك، ولكنها ستكون دولة كل اليمنيين تضم في جنباتها كل ذلك التنوع الذي يحتكم الى القانون وقواعد التعايش وثقافة التسامح والثقة والمساواة، وما لم تكن كذلك فإنها لن تكون "دولة مدنية" وانما ستكون دولة بدائية لا مواطنة فيها سوى لمن لا قيم لهم ولا عهد ولا ذمة وهي بالتحديد الحالة التي يثور عليها اليمنيون اليوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق