د. عبد الله الفقيه
استاذ العلوم السياسية في جامعة صنعاء
ملخص ورقة عرصت في منتدى الشيخ الأحمر في 18 مايو 2009
ظهرت وتنامت في الجمهورية اليمنية خلال السنوات القليلة الماضية حركة شعبية ترفض التعايش بين ابناء الوطن الواحد وتدعو الى فك الإرتباط بين الشمال والجنوب. وتمكنت تلك الحركة، ولو بشكل مؤقت، من تجاوز خلافاتها وتناقضاتها الداخلية والاتفاق على هدف واحد هو العودة الى التشطير. وتلقى الحركة الجنوبية دعما، أو على الأقل تعاطفا، لا يقتصر على الجماعات الجنوبية في الداخل والخارج وفي السلطة والمعارضة، لكنه يمتد أيضا الى بعض الجماعات الشمالية. والأخطر من كل ذلك هو ان الحركة تمكنت خلال الأسابيع القليلة الماضية من اختراق الحصار الإعلامي والدبلوماسي الذي فرضه النظام حولها. وهناك احتمال كبير بان المجتمعين الدولي والإقليمي يدعمان حركة المراجعة الجنوبية ويستخدمانها كورقة ضغط بهدف إعادة صياغة الخريطة اليمنية بطريقة أو بأخرى.
أسباب التداعيات
تعتبر التداعيات الجارية في المحافظات الجنوبية من البلاد حصيلة لتراكمات بعضها تاريخي يرجع إلى مرحلة ما قبل الوحدة، وبعضها الآخر يرجع إلى الطريقة التي تمت بها الوحدة والى الصراعات والسياسات التي سادت في مرحلة ما بعد قيام الوحدة، والبعض الثالث والأكبر حجما يرجع إلى السياسات التي تم أو لم يتم تبنيها في مرحلة ما بعد حرب عام 1994 سواء بقصد أو بدون قصد.
فقد تم ابتداء من عام 1995 تبني سياسات الإصلاحات السعرية بمعزل عن سياسات الإصلاح المالي والإداري، وسحب الدعم كليا عن المواد الأساسية بما في ذلك القمح والدقيق ثم بعد ذلك جزئيا عن مشتقات النفط. وبدلا من استخدام المبالغ الضخمة التي تم توفيرها في التنمية وخلق فرص العمل وتحسين أوضاع الناس حدث العكس. فقد تم شفط المليارات من جيوب الفقراء المعدمين ووضعها في جيوب الفاسدين. وقد تأثر الجنوبيون اكثر من الشماليين بالسياسات الإقتصادية غير الحكيمة بسبب طبيعة الإقتصاد الجنوبي في المرحلة السابقة على الوحدة والذي قام على قاعدة "من كل حسب قدرته الى كل حسب حاجته" و هو المبدأ الذي تحول بعد حرب عام 1994 إلى "من كل حسب بعده وضعفه إلى كل حسب قرابته ونفوذه."
وكانت وما زالت مشكلة الأراضي من أهم مغذيات النزعة الإنفصالية. وترجع جذور المشكلة الى سياسات التأميم والإقتصاد الموجه والملكية العامة لأدوات الإنتاج التي تبناها اليسار في الجنوب في مرحلة ما قبل قيام الوحدة. فعشية قيام الوحدة اليمنية كانت كل اراضي جنوب اليمن ملكا للدولة. ومع ان الدولة الموحدة بدأت خلال السنوات الأولى من قيامها في معالجة تركة التأميم الإ ان العملية سارت ببطء شديد. وما حدث بعد حرب عام 1994 هو ان الأراضي التي كانت ملكا للدولة انتقلت الى النافذين من سياسيين ووجاها ت اجتماعية اما بأوامر عليا أو بالبسط والنهب.
وكان يفترض ان تبدأ الدولة وبالتزامن مع الإصلاحات السعرية سياسة لدمج المواطن الجنوبي في الإقتصاد الوطني من خلال اعطاء القروض الصغيرة والمتوسطة للجنوبيين وتشجيعهم وتدريبهم على انشاء الأعمال الخاصة. لكن ذلك لم يحدث. بل حدث العكس حيث تمت السيطرة على كل فرص الإستثمار في الجنوب. وتم توزيعها بنفس الطريقة التي تم بها توزيع اراضي عدن وابين وحضرموت على نافذين شماليين.
وتم تبني نوعا من التنمية في المحافظات الجنوبية شبيه بالتنمية التي تتبناها الأنظمة الإستعمارية. فقد تم تبديد المليارت في بناء طرق تسهل حركة الجيش او خروج الثروات من اراضي الجنوب. لكن المشروعات التي تخلق فرص العمل وتحسن الدخل والمعيشة لسكان المحافظات الجنوبية ظلت محدودة ان لم تكن غائبة تماما.
وتم بعد حرب عام 1994 اتباع العديد من السياسات التي قادت الى تهميش سياسي واسع لأبناء الجنوب شبيه بالتهميش السائد في الشمال، الإ ان وقع ذلك على الجنوب قد اختلف عن وقعه في الشمال لإن الجنوبيين كان لهم دولة وكانوا فيها قادة ومسئولين. فاخراج عناصر الحزب الإشتراكي من مواقعهم القيادية في الجنوب واحلال شماليين محلهم كان له وقعه السيىء. والمشكلة هي ان الحزب الإشتراكي لم يكن جزءا من الجنوب كما ظنت السلطة، بل كان الجنوب كله بمعنى من المعاني. وقد نبه الكثيرون، وفي وقت مبكر، إلى خطورة إسناد المواقع الهامة في الجنوب لأبناء الشمال لكن السلطة ظلت تتجاهل الأمر لوقت طويل. وعندما استجابت كان الوقت قد تأخر كثيرا. كما ان الاستجابة لم تكن بمستوى المشكلة.
وعملت السلطة بعد حرب عام 1994 على تصفية بنية الدولة الجنوبية خوفا من عودة الإنفصال ولم يتم بناء جهاز دولة جديد قادر على ادارة شئون الناس وبنفس الكفاءة والعدالة وهو ما ترك فراغا كبيرا. فقد افتقد الجنوبيون في ظل دولة الوحدة فعالية الإدارة البريطانية التي مثلت إحدى الحسنات القليلة للهيمنة الأجنبية. كما افتقدوا المساواة (وان كانت في الفقر) التي تمتعوا بها في ظل حكم الحزب الاشتراكي للجنوب.
وساهمت سياسات "خليك في البيت" والإحالة إلى التقاعد، وتشجيع التقاعد المبكر وغيرها في تراجع تمثيل الجنوبيين بين موظفي وقيادات دواوين الوزارات على مستوى المركز وفي المؤسسات العسكرية والأمنية وفي الجهاز الدبلوماسي، ثم ساهمت بعد ذلك في تراجع تمثيل الجنوبيين في الحيزين العام والخاص واختزل الشعب في الفرد والوطن في العاصمة. وتأخر النظام كثيرا في الإقرار بهذا الجانب من المشكلة رغم الظهور المبكر للحركة المطلبية. ويبدو ان معالجات النظام التي تأخرت كثيرا لم تحقق ما كان يرجى منها.
ومع ان ثقافة الجنوب لا تختلف عن ثقافة الشمال الإ كاختلاف الأسر والعشائر والقبائل عن بعضها البعض الا ان ما حدث بعد حرب عام 1994 هو ان النظام حاول تبني سياسة طمس كل ما يذكر بدولة الجنوب. ولم يتوقف الأمر عند تغيير اسماء المدارس والمعسكرات والمراكز واسم قناة عدن وغيرها بل وصل الأمر الى محاولة توحيد الثورتين في ثورة واحدة. ولجأ الإعلام الرسمي مع كل حديث عن الوحدة الى بتر صور الأستاذ علي سالم البيض التي يظهر فيها وهو يرفع علم الجمهورية اليمنية مع الرئيس علي عبد الله صالح في 22 مايو 1990. والمشكلة ان الشعب الذي حاول النظام ودون حاجة لذلك ان يطمس ذاكرته كان وما زال حيا. و قد واجه محاولة الطمس بالتمسك بخصويته وبالبحث المستمر عن هوية متميزة حتى وان كانت مجرد وهم.
المعالجات الضارة
تواجه اليمن أزمات سياسية تتصف بالجدة في حين ان الفاعلين السياسيين يواجهون تلك الأزمات الجديدة بأدوات قديمة. ففي مواجهة الوضع في المحافظات الجنوبية بدأ الإعلام الرسمي بشن حملة تسيىء للجنوب ورموزه وهو ما يمكن ان يؤدي الى تصليب المواقف وتعقيد المشكلات. ومع ان اليمنيين قد جربوا استخدام القوة لحل خلافاتهم اكثر من مرة وكان آخرها في عام 1994 الإ انهم لم يستفيدوا من دروس التاريخ. فقد لوح النظام وبسرعة بالأداة العسكرية ولوح الحراك بدوره بالعنف.
ولا يمكن النظر الى هيئات الدفاع عن الوحدة التي لوح النظام بتشكيلها الإ على انها اخطر على الوحدة وعلى الإستقرار من دعاة الإنفصال. فالوحدة اليمنية ليست حالة حرب ضد الجنوب وانما هي حالة حب مع الجنوب. وكل قطرة دم ستسيل في الشمال أو في الجنوب هي خسارة فادحة لليمن. اما الإعتقالات التي يقوم بها النظام، فانها تضعف شرعية الوحدة وتزيد من شرعية الأنفصال. ولإن الوحدة اليمنية قامت على الديمقراطية ولا يمكن لها ان تستمر في غيابها، فان لجوء النظام الى مصادرة الحريات وتكميم الأفواه واغلاق الصحف والمحاكمات يضر بالوحدة ولا يحميها.
ولن تجدي سياسات الحفاظ على الأمر الواقع نفعا في ظل تنامي التحديات وتفاقم الأزمات. وما يصعب معالجته اليوم سيستحيل معالجته غدا. ومع ان النظام احتفى كثيرا بالبيانات الصادرة عن الدول الشقيقة والصديقة والتي عبرت عن دعمها للوحدة اليمنية الإ ان الجانب السلبي هو ان تلك البيانات قد تعني تدويل المشكلة.
المعالجات المطلوبة
لا بد ان تدفع الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والوجاهات والمشايخ والعلماء وكل من يحرص على مصلحة اليمن واليمنيين خلال الأجل القريب على تشكيل هيئة وطنية للاشراف على الإعلام بكافة اشكاله واحالة التجاوزات الى السلطة القضائية لإن الإعلام وخصوصا الإعلام الرسمي هو سيف ذو حدين والمتتبع لوضع الإعلام في السنوات السابقة سيلاحظ انه تحول الى خنجر موجه لجسد الوطن. ويمكن ان تشكل تلك الهيئة من اعضاء في مجلس الشورى او ان تكون تابعة له شريطة ان تتخذ طابعا غير حزبي.
ولا بد من تشكيل هيئة وطنية لمناصرة المطالب الشرعية لأبناء الجنوب وعلى أن تضم ممثلين عن مشايخ وعلماء ووجهاء اليمن والأحزاب والصحفيين والأكاديميين. وتعمل الهيئة على انشاء فروع لها في مختلف ارجاء اليمن وتركز على دراسة أوضاع المحافظات الجنوبية وعقد المؤتمرات والورش والندوات والتعرف على المشاكل والمعاناة في المحافظات الجنوبية عن قرب وتقديم كافة اشكال الدعم الفني والقانوني والمادي للاخوان في الجنوب. وهذه الفكرة هي تطوير للفكرة التي طرحها العلما والمشايخ في النداء الذي خرجوا به بداية هذا الشهر.
ولا بد من إنشاء صندوق خاص لتنمية المحافظات الجنوبية وعلى ان يديره ابناء الجنوب أنفسهم ويتولى مجلسا النواب والشورى اختيار اعضاء مجلس ادارة الصندوق من بين الشخصيات الجنوبية التي عرف عنها النزاهة والإيمان بالوحدة وبغض النظر عن الإنتماء الحزبي، وعلى ان يتم تمويل الصندوق عن طريق نسبة من عائدات النفط ، ضريبة معينة يتم فرضها على المستثمرين في الجنوب، ضريبة يتم فرضها على الأراضي والعقارات التي تتجاوز في مساحتها حاجات الإستخدام الشخصي، الدعم الإقليمي والدولي، اي مصادر أخرى يحددها القانون وعلى ان يناط بالصندوق معالجة قضايا الأراضي والتعويضات والفقر والبطالة ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة ودمح ابناء الجنوب في الإقتصاد الوطني.
كما لا بد من الغاء كافة القضايا وليس فقط الأحكام الصادرة ضد قادة الإشتراكي والمتصلة بحرب عام 1994 ودعوة كافة المشردين من ابناء الجنوب في الدول الأخرى بما في ذلك الأستاذ علي سالم البيض، والرئيس علي ناصر محمد، والمهندس حيدر ابوبكر العطاس، للعودة وعلى ان تتكفل الدولة ومن خلال لجنة مستقلة باعادة ممتلكات تلك القيادات وتقديم التعويض العادل لها. واذا كان لا بد من ترتيب الوضع السياسي لتلك القيادات فيمكن تعيين الأستاذ علي سالم البيض حاكما لحضرموت والأستاذ علي ناصر محمد حاكما لأبين والمهندس حيدر ابو بكر العطاس حاكما لعدن وذلك حتى يتم استكمال اجراءات الإنتخاب المباشر للمحافظين. والوحدة اليمنية اذا لم تتسع لجميع ابنائها فلا يمكن ان تستمر.
ولا بد من مطالبة السلطة بنشر كافة التقارير الحكومية المتعلقة بمظالم الجنوب بما في ذلك نهب الأراضي حتى يكون الجميع على بينة مما يجري وحتى يتراجع الناس فيما بينهم. كما لابد ايضا من اعادة مقرات وممتلكات واموال الحزب الإشتراكي اليمني لإن هذا الحزب الوحدوي هو أهم الدعامات للوحدة اليمنية. وسيكون من المفيد الضغط على الجهات الحكومية المركزية لتعمل خلال بضع سنوات على ضمان ان تضم قائمة موظفيها ومسئوليها ما لايقل عن 20% من ابناء المحافظات الجنوبية وعلى ان يتم اختيار تلك العناصر اعتمادا على الكفاءة وبعيدا عن الإعتبارات السياسية.
وهناك حاجة لإنشاء ثلاث محطات تلفزيونية في حضرموت وابين والضالع والحاقها بالسلطة المحلية مع اعادة تسمية القناة الثانية بقناة عدن والحاقها بالسلطة المحلية. كما لا بد من إدخال مادة الوحدة اليمنية كمقرر إجباري على كل طلاب الجامعات اليمنية الحكومية والخاصة ابتداء من السنة الدراسية القادمة 2009/2010.
وتفرض الأوضاع القائمة الإسراع الى تشكيل حكومة وحدة وطنية توسع من قاعدة الرافضين للتدخلات الخارجية ودعاة العنف والانفصال والتشرذم. والحكومة المطلوبة ليست حكومة تقاسم بل حكومة إنقاذ للبلاد. وهناك الكثير من الشخصيات التي يمكن ان تلعب دورا داعما. فالأستاذ الدكتور صالح باصرة مثلا يعتبر من الأشخاص الذين يمكن ان يلعبوا دورا كبيرا في هذه المرحلة. وليس من صالح السلطة ولا البلاد انفراد السلطة في التعاطي مع المشاكل، فالوطن ملكا للجميع وانفراد طرف واحد في ترتيب مستقبله يمثل خيانة عظمى.
ولان حل مشاكل اليمن الحالية والمستقبلية انما يتم بالحوار والحوار فقط فانه لا بد من عقد مؤتمر للحوار الوطني لا يستثني احد يعمل على حل جميع الخلافات واعادة صياغة الدستور بالاستفادة من وثيقة العهد والاتفاق، ومشروع اللقاء المشترك للإصلاح السياسي والوطني الشامل، ومبادرة رئيس الجمهورية وبحيث يتم تحقيق الإستقلال التام للقضاء، اللامركزية الإدارية والمالية الكاملة، انتخاب المحافظين ومدراء المديريات، انتخاب اعضاء مجلس النواب كلهم عن طريق القائمة النسبية المغلقة والدائرة الواحدة لليمن كلها واعضاء مجلس الشورى جميعهم عن طريق الدائرة الفردية، اعطاء مجلس الشورى حق الموافقة على التعيينات لكبار المسئولين في الدولة والحكومة والجهاز الدبلوماسي والقضائي، اعطاء البرلمان حق اختيار رئيس الوزراء على ضوء نتائج الإنتخابات، حضر التحزب على رئيس الدولة، استقلال الإعلام الرسمي واطلاق حرية امتلاك الصحف والقنوات الإذاعية والتلفزيونية، الفصل بين الجهاز الإداري للدولة وبين الحزب أو الأحزاب الحاكمة، والغاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وتفعيل دور الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق