يتطلب فهم ما يجري على الساحة اليمنية اليوم تجاوز مصطلح "الحوار الوطني" الخادع والتركيز على أن ما يحدث اليوم وما سيحدث غدا هو "تفاوض" صعب حول الكثير من القضايا الوطنية الحساسة بين أطراف معروفة تاريخيا بالتشدد في المواقف والفشل في حل المشاكل بالأساليب السلمية. وما يزيد من تعقيد الأمور أن الكثير من القضايا التي سيتم التفاوض حولها تبدو وقد ركبت بطريقة تجعلها غير قابلة للتجزئة وبالتالي غير قابلة لتطبيق مبدأ التنازلات المتبادلة. ضف الى ذلك ان التفاوض سيتم بين أطراف لا تجلس حول مائدة التفاوض وانما تفاوض عن طريق وكلاء.
انواع التفاوض
بشكل عام، هناك نوعان من التفاوض : الأول، تفاوض تعاوني يسعى من خلاله المفاوضون الى الوصول الى حلول جادة للمشاكل القائمة بنية صادقة ودون ضرر ولا ضرار. ويعتمد هذا النوع من التفاوض على التعاون الكامل الذي يبديه كل طرف مع الأطراف الأخرى سواء من خلال تبادل المعلومات وتوضيح المواقف أو من خلال اساليب وتكتيكات بناء الثقة الأخرى وهي كثيرة.
والهدف في النهاية لدى كل مفاوض هو تحقيق مصالح الأطراف المشاركة في التفاوض على اعتبار ان الضمان الوحيد لتنفيذ مخرجات التفاوض هو تحقيقها لمصالح جميع الأطراف. ويمتاز هذا النوع من التفاوض بأن النتائج التي يتم التوصل اليها تتصف بالثبات وغالبا ما تقوم الأطراف المشاركة في التفاوض بتنفيذ ما تم الإتفاق عليه لإن لكل طرف مصلحة في تنفيذ تلك النتائج.
اما النوع الثاني، فهو التفاوض التنافسي الذي يسعى من خلاله كل طرف الى الحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب على حساب الأطراف الأخرى حتى لو اقتضى الأمر توظيف اساليب المكر والخديعة والترغيب والترهيب وتضليل الأطراف المشاركة وشراء ممثليها والتجسس عليها وافتعال الأزمات وغير ذلك من الأساليب المعروفة.
ويعاب على هذا النوع من التفاوض انه يقود الى الفشل قبل التوصل الى نتائج أو انه يفضي الى نتائج غير قابلة للتطبيق على أرض الواقع. فسرعان ما تكتشف الأطراف التي تعرضت للخديعة أو تم شراء مواقف ممثليها مقدار الغبن الذي تعرضت له وتلجأ نتيجة لذلك الى تصعيد مطالبها التفاوضية ورفض تطبيق النتائج التي تم التوصل اليها وفي كل الأحوال فإن الخلافات تصبح اكثر عمقا لإن الثقة المتبادلة بين الأطراف تصبح شبه معدومة.
تفاوض تنافسي
تشير كل اجراءات التحضير للحوار الوطني الى ان كل الأطراف تفاوض تنافسيا في مرحلة "التفاوض حول التفاوض." فقد تم اتباع المنهج التنافسي في عملية تشكيل اللجنة الفنية للتحضير للحوار الوطني وتم توظيف ذات المنهج في اعداد الوثائق وتوزيع نسب التمثيل ثم في اختيار الممثلين عن فئات الشباب والنساء والمجتمع المدني. وبات من الواضح ان تعيين عضوين في اللجنة الفنية في الحوار في مواقع بالغة الأهمية في الدولة لم يكن محض صدفة بقدر ما هدف ومنذ البداية الى وضع مئات المليارات تحت تصرفهما بشكل أخل باي توازن يتطلبه التحضير. كما بات من الواضح ايضا من خلال فعاليات الحراك الجنوبي وخطابه السياسي والشروط المسبقة التي يضعها انه يفاوض تنافسيا.
وليس هناك اي شك في ان الأحزاب ستوظف المنهج التنافسي في اختيار ممثليها الى مؤتمر الحوار الوطني بدليل مراوغة كل حزب في تسمية مرشحيه. وبغض النظر عن القائمة التي سربها المؤتمر الشعبي العام باسماء ممثليه والتي امتلئت بالبلاطجة (وهذه ايضا سمة للتفاوض التنافسي) وما اذا كانت هي فعلا قائمة مرشحيه أم لا ، فإن الشيىء شبه المؤكد في ظل بقاء المؤتمر الشعبي العام اسيرا لصالح وأسرته وعدم حدوث اي تحول في بنيته التنظيمية أو الثقافية أو القيادية أن المؤتمر سيفاوض تنافسيا لإن الحزب الذي ظل يفاوض تنافسيا منذ انشائه في عام 1982 لا يمكن ان يفاوض تعاونيا حتى لو رغب في ذلك لإن هذه النقلة تتطلب نقلة بنيوية وثقافية داخل الحزب.
عصا الخارج
سيعتمد اي نجاح ممكن للحوار الوطني في ظل التفتت الداخلي الذي يزداد يوما بعد آخر، وفي ظل مؤشرات الفشل التي تتراكم يوما بعد آخر، على عصا وجزرة الخارج. لكن الخارج صاحب العصا الغليضة يمتلك مصالح من جهة وحلفاء داخليين من جهة ثانية. وصحيح ان الخارج لن يتبنى سوى خيارات اليمنيين لكن تلك الخيارات لن تمثل بالضرورة خيارات كل او أغلبية أو حتى قطاع اجتماعي له ثقله. فللخارج مصالحه غير الواضحة حتى الان والتي قد تتناقض مع ما يعتقد الكثير من اليمنيين انه مصالحهم. وهكذا يبدو مستقبل اليمن مفتوحا على الكثير من الخيارات ليس من بينها حتى اللحظة خيار بناء دولة المواطنة المتساوية التي تتسع لجميع اليمنيين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق