د علي خليفة الكواري
تحركات الشارع العربي من أجل الانتقال إلى نظم حكم ديمقراطية, ظاهرة جديدة نامية فقد تحرك الشارع في أغلب البلاد العربية في الماضي من أجل الاستقلال ومقاومة الاحتلال والاستيطان كما تحرك ضد ظلم الحكام وفسادهم, وأسقط نظما حاكمة كثيرة بشكل أو بآخر. ولكن الشارع العربي في الماضي لم يتحرك من أجل الديمقراطية كما تحرك اليوم, وذلك بعد أن انتشرت قناعات لدى كثيرين بأن الديمقراطية إلى جانب كونها هدفا في حد ذاتها فإنها أيضاً وسيلة لتحقيق الأهداف الوطنية الكبرى. والاستثناء على ذلك هو ثورة 1919 في مصر وانتفاضتي السودان ضد نظامي عبود والنميري.
ولعل غياب الديمقراطية ومقايضتها بالأهداف الوطنية الأخرى في الماضي كانت إلى جانب عوامل أخرى, وراء تنامي الاستبداد وانتشار الفساد وفشل التنمية وعدم تحقيق الأمن, مما أدى إلى تآكل الإرادة الوطنية تدريجياً وعودة القوات الأجنبية وتفاقم ظلم الحكام واستبدادهم.
من أجل دراسة هذه الظاهرة الجديدة وترشيد مسارها – باعتبار تحركات الشارع مسألة لازمة للانتقال إلى الديمقراطية ولكنها غير كافية ما لم تكن تعبيرا ً عن مشروع ديمقراطي بديل توافقت عليه القوى التي تنشد التغيير السلمي _ , خصص مشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية, لقاءه السنوي الخامس عشر(2007) لتناول الديمقراطية والتحركات الراهنة للشارع العربي...وهو عنوان الكتاب الذي قمت بتحريره وقام بنشره مشكورا مركز دراسات الوحدة العربية في عام 2007 .
وجدير بالتأكيد أن ما نقصده بتحركات الشارع هو التحرك الجامع المعبر عن توجهات المجتمع بشكل عام, ويضم مختلف القوى والتيارات التي تنشد التغيير السلمي, دون إقصاء لأي جماعة أو تمييز بين المواطنين بسبب الجنس أو العرق أو الدين والمذهب , إنه باختصار تحرك شعبي في مواجهة السلطة المستبدة يحمل مطالب وطنية مشتركة بين القوى التي تنشد التغيير السلمي. وهو تحرك يعبر عن بروز موقف ثوري. ونقصد بالموقف الثوري عجز السلطة الحاكمة أن تحكم بأساليب حكمها التقليدية السابقة وبضوابط أمنية ومصلحيه ضيقة.
عندما ينمو هذا الموقف الثوري تواجه السلطة, الشعب و نشطاءه موحدين مستعدين لتحمل تبعات طرح المطالب الوطنية خارج الهامش المسموح به للتعبير من قِبَل السلطة, وبأساليب لم تتعود عليها السلطة ولا ترضى عنها. الأمر الذي يخل بهيمنة السلطة ويكسر حاجز الخوف, ولا تكفى عندها سياسة " الجزرة والعصا " أو "سيف المعز وذهبه " لإسكات الشعب المتذمر ويبرز صوت الشارع الموحد المطالب بحق المشاركة في تحديد الخيارات واتخاذ القرارات العامة.
ولعل الموقف الثوري الحالي الذي نشهده ينمو في أكثر من بلد عربي، قد زاد منه احتقان سياسي مزمن في الدول العربية وعجل به انفتاح سياسي شكلي, في وقت أصبح فيه للإعلام من خارج الحدود حضورا ولشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان تأثيرا وأصبح بطش الحكومات مرصودا وتحت المجهر على المستوى العالمي. وربما ساعد أيضاً في نمو الموقف الثوري هذا, ما نلاحظه من ميل للحوار بدل المواجهة وتنقية للخطاب لدي قيادات التيارات والقوى التي تنشد التغيير في أكثر من بلد عربي , الأمر الذي أدى تدريجياً إلى نمو البحث عن قواسم وجوامع وطنية مشتركة في مواجهة السلطة الحاكمة المحتكرة لحق تحديد الخيارات واتخاذ القرارات العامة.
ويمكننا ذكر خاصيتين تُميزان ما نطلق عليه " تحركات الشارع " عن مجرد التحركات في الشارع :
أولاهما: خاصية تعبير التحركات عن الشعب بكافة مكوناته دون إقصاء أو تمييز على أساس العرق أو الدين والمذهب. إن تحركات الشارع التي نقصدها هي تلك الحركة الوطنية ذات الأهداف الجامعة وليست حركة فئوية. وهي حركة يشارك فيها النشطاء من مختلف القوى التي تنشد التغيير, وإن اختلفت درجة المشاركة وتعددت وسائلها. ولذلك فإنها تحركات تختلف عن مجرد التحرك في الشارع من أجل ألإستقواء بالأجنبي(الثورات الملونة) أو اتخاذ التحرك ذريعة لاستقطاب تدخل خارجي لا تحمد عقباه, فتلك اضطرابات قد تمهد لحروب أهلية .
ثانيتهما : خاصية الشمول لكافة سبل التعبير السلمي المتاح سواءً رضيت عنه السلطة أم لم ترضَ. ولذلك لا تنحصر تحركات الشارع في المظاهرات والإعتصامات. فإلى جانب ذلك يمكن اعتبار الندوات والمؤتمرات ونشاطات المنظمات غير الحكومية والنقابات والجمعيات المهنية, التي تجمع الطيف السياسي في نشاطات وحوارات وطنية مشتركة جزءاً من تحركات الشارع, طالما كانت تجري خارج الهامش المسموح به من قِبَل السلطة أو لا ترضى عنه السلطة في العادة. وكذلك يمكن اعتبار المدونات والنشر الالكتروني والكتابة في الصحف والحديث الجريء في وسائل الإعلام وتسمية المظالم بأسمائها وتعريف الاستبداد والفساد( الكبير منه قبل الصغير) وتحديد مرتكبيه هي أيضاً من تحركات الشارع.
فلم يعد يُجدي اليوم الحديث العام عن الاستبداد والفساد والتخلف وضرورات الإصلاح , فالحكام وأجهزتهم الإعلامية تتحدث أكثر مما يتحدث المثقفين والمصلحين, وإنما يجب تسمية المستبدين بأسمائهم وكذلك المفسدين والفاسدين وتحديد أوجه الخلل والخراب المطلوب إصلاحه بشكل واضح وصحيح لا يترك لبسًا ولا يسمح للمستبدين والمفسدين أن يخطفوا راية الإصلاح ويحرفوها عن اتجاهها الصحيح ومنها ما يتعلق بهم شخصياً. وأخيراً وليس آخر يُعد من تحركات الشارع أيضاً, كل ما يتعلق بنمو القدرة على استخدام التقنيات الإلكترونية وسبل النشر البديلة والحوار عن بعد, والتواصل من خلال البريد الإلكتروني و الرسائل التليفونية. فهذه الأساليب الحديثة كسرت احتكار السلطة للمعلومات وأتاحت فرصة طرح ونشر المعلومات البديلة من خلال وسائل لا تستطيع السلطة السيطرة عليها بالكامل, الأمر الذي أدى إلى اتساع هامش التعبير خارج ما ترضى عنه السلطة.
وجديرٌ بالملاحظة أيضاً من خلال معظم تجارب تحركات الشارع العربي في الماضي, أن تحركات الشارع حتى وإن توفرت فيها خاصيتا التعبير عن الشعب بكافة مكوناته, وتمتعت بالشمول من حيث أساليب التعبير, فإنها قد لا تكون كافية لتحقيق الأهداف الوطنية , ومنها الانتقال إلى نظام حكم ديمقراطي. ومثال ذلك تحركات الشارع الجزائري عام 1988 وتحركات الشارع التونسي في عهد بورقيبة, فتلك تحركات قصرت عن تحقيق القصد الشعبي من التحرك.
لذلك يمكن القول إن تحركات الشارع لازمة للانتقال من حكم الفرد أو القلة إلى نظام حكم ديمقراطي, ولكنها بكل تأكيد غير كافية. وحتى تكون تحركات الشارع كافية لتحقيق المرجو منها, لابد لتحركات الشارع أن تؤسس على وفاق وطني صادق بين القوى والتيارات التي تنشد التغيير السلمي. وهذا الوفاق يجب أن يتعدى الجانب السلبي منه أي إسقاط النظام المستبد القائم, إلى الجانب الإيجابي وهو إقامة نظام حكم وطني ديمقراطي بديل .
من هنا فإن تحركات الشارع العفوية تحتاج إلى ترشيد بضبط مسارها باتجاه هدف الانتقال إلى نظام حكم ديمقراطي. وهذا يتطلب وفاقاً وطنياً بين قيادات التحرك على معالم النظام البديل. وربما يأخذ التوافق شكل ميثاق شرف و مسوّدة دستور ديمقراطي أو على الأقل المبادئ الحاكمة لذلك الدستور. إن الوفاق بين الحركات التي تنشد التغيير على معالم النظام البديل المنشود وربما أيضاً قياداته المحتملة, سوف يجعل أطراف الحركة الديمقراطية تطمئن لبعضها ولا يتربص طرفٌ منها بأخر خوفاً منه ... هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى .. سوف يؤدي ذلك إلى وضوح الرؤية ويساعد على الحشد والتعبئة. إن الوفاق على معالم النظام البديل والتعرف على قياداته وثقة الشعب بها ، سوف يُمكّن الحركة الديمقراطية من استمرار الضغط على نظام الحكم المستبد إن لم يرجع إلى رشده ويقبل التفاوض حول الانتقال من حكم الفرد أو القلة إلى نظام حكم ديمقراطي. وهناك أمثلة عدة في أمريكا الجنوبية وأسبانيا والبرتغال ونيبال أخيراً, وكلها أمثلة على الوفاق الديمقراطي الذي يعزز النضال من أجل الديمقراطية ويُمكّن الشعوب من الانتقال سلمياً إلى نظم حكم ديمقراطية متوافق عليها. وقد استمرت بعض المعارضات السلمية الجادة عقود من الزمن حتى اقتنع الشعب بقياداتها وباطروحاتها قبل أن يقف معها بقوة في وجه النظام القائم.
وهنا لابد لنا من التأكيد على نوعية قيادات المعارضة وعلى العامل الزمني لتحركات الشارع حتى تصل سلمياً إلى الهدف المنشود منها وهو الانتقال إلى نظم حكم ديمقراطية.
إن تحركات الشارع التي تبدأ كإرهاصات, تعبيراً عن الانسداد والاحتقان السياسي من ناحية ونمو الموقف الثوري من ناحية أخرى, تحتاج إلى وقت قد يمتد إلى عقد من الزمن أو أكثر وذلك حتى تمر الحركة الوطنية للتغيير خلاله بترتيب أوضاع المعارضة وتنمية القواسم المشتركة وفرز قيادتها, وصولاً إلى طرح مشروع يطالب بنظام حكم ديمقراطي سلمي . وخلال هذا العقد من استمرار الحركة الوطنية قد ينفرط رباط المعارضة مرة أو مرات وتتغير أطرافها وتمر بفترات مد و جزر, ولكن المهم هو الحفاظ على الهدف الإستراتيجي وهو الانتقال إلى نظام حكم ديمقراطي, والعمل على ترابط أطراف الحركة الديمقراطية بميثاق شرف وتوافقها على معالم دستور ديمقراطي يلبي الأهداف الوطنية الكبرى.
إن تحركات الشارع شبيهة بحركات التحرير الوطني تحتاج إلى زمن كافٍ تتم خلاله تنمية إرادة التغيير السلمي الديمقراطي لدى المجتمع من ناحية وتتخلخل فيه إرادة الاستبداد والإنفراد بالحكم وتتآكل إرادة الانفراد بالسلطة والثروة, بعد أن ينفض المؤيدون عن مائدته ولا يخشى المعارضون عصاه. عندها تضطر السلطة إما للتفاوض على قاعدة الديمقراطية وإما لمواجهة شعب موحد رافض لممارسة الاستبداد على مقدراته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق