د. عبد الله الفقيه
dralfaqih@yahoo.com
تقول احدى النكات المنتحلة ان مسئولا يمنيا رفيعا فرك خاتما يضعه في احدى اصابعه فخرج له عفريت وساله عن الحاجة التي يريد منه قضاءها. فما كان من المسئول الإ ان طلب من العفريت ان يعالج "النزعة الإنفصالية" التي تعتري الكثير من الناس في المحافظات الجنوبية. فطلب العفريت من المسئول اليمني ان يشرح له المشكلة بالتفصيل. وقد أجاب طالبه. ولما فرغ المسئول من شرحه اعتذر العفريت بادب عن حل المشكلة لإنها كما قال اكبر من طاقته. لكنه في نفس الوقت سأل المسئول عما اذا كان هناك مشكلة اصغر منها تتفق مع قدراته ويستطيع حلها. فطلب منه المسئول اليمني هذه المرة تحقيق مطالب الدكتور محمد حيدرة مسدوس الخاصة ب"اصلاح مسار الوحدة." فربما يكون ذلك كفيلا باعادة الأمور الى نصابها. فسأل العفريت محاوره عن تفاصيل مطالب مسدوس. فقال له المسئول ان مسدوس يطالب ب"الغاء الفتوى التي صدرت في عام 1994 وبررت الحرب؛ اعادة كافة المنهوبات العامة والخاصة من مؤسسات وممتلكات الجنوب؛ اعادة كافة الجنوبيين المشردين في الداخل والخارج الى وظائفهم ...الخ." وقبل ان يكمل المسئول قراءة مطالب مسدوس الستة قاطعه العفريت طالبا منه ان يعيد شرح "النزعة الإنفصالية" في الجنوب لإنها بدت له اقل تعقدا من مطالب مسدوس.
وتقترب النكتة كثيرا من طبيعة التحديات التي تواجهها الجمهورية اليمنية في الوقت الحاضر. فهناك في الجنوب معاناة كبيرة تعمل بعض النخب السياسية على توظيفها ضد الوحدة اليمنية. وهناك على مقربة من تلك النزعة الإنفصالية تيار يسعى لإصلاح مسار الوحدة ويطرح مطالب يبدو من المستحيل تحقيقها بالشكل الذي يتم طرحها به. ولا تقتصر التحديات بالطبع على الوضع في الجنوب. فالتمرد في صعدة يدخل عامه الخامس دون وجود مؤشرات على نهاية وشيكة سلمية كانت أو غير سلمية. وفي الوقت الذي يركز فيه هذا المقال على تحدي التمرد في صعدة والغضب في الجنوب فانه لا ينبغي التقليل من الخطر الذي يمثله الإرهاب على الإقتصاد الوطني وعلى علاقة اليمن بالعالم. وكل تحد من التحديات السابقة له جذوره التاريخية وتعقيداته الداخلية وامتداداته الخارجية. وما يزيد الوضع سوءا هو ان البلاد تواجه العديد من التحديات في نفس الوقت وفي ظل سياقات سياسية واقتصادية واجتماعية أكثر تعقيدا.
تمرد صعدة
بدأ التمرد في صعدة في عام 2004 وشهد حتى الان خمس جولات من المواجهات المسلحة بين القوات الحكومية من جهة والتمردين من جهة أخرى. وقد انتهت الجولات الثلاث الأولى بمصالحة بين الحكومة من جهة والمتمردين من جهة أخرى. لكن تلك المصالحات التي غلبت عليها السرية قادت الى جولات جديدة من الحرب. وبالنسبة للاتفاق الرابع والذي تم التوصل اليه بواسطة قطرية في يونيو 2007 فقد اختلف عن سابقيه من الإتفاقات حيث جاء مكتوبا ومعلنا ومحددا لآلية الحل. وتوفرت لإتفاق 2007 الكثير من شروط النجاح وأهمها وجود الوسيط الخارجي وتبني آلية للحل يشارك في تنفيذها معظم القوى السياسية. ورغم ذلك فقد انتهى به الأمر الى الفشل لأسباب كثيرة لا يتسع المجال هنا لمناقشتها. وكان هناك اتفاق خامس في الدوحة تلى الإتفاق الرابع وقاد الى الجولة الخامسة من الحرب.
ويمكن ادراج الصراع الدائر في صعدة تحت ذلك النوع من الصراعات الذي يبدأ فيه الأطراف بالصراع ثم يبحثون بعد ذلك عن الأسباب التي يمكن ان يبرروا بها الصراع. وتكون النتيجة هي ان الصراع ذاته يتحول الى سبب ونتيجة في نفس الوقت. فالدولة تحارب الحوثيون لإنهم يحاربونها والحوثيون يحاربون الدولة لإنها تحاربهم.
ولعل المشكلة التي تواجه المحلل بالنسبة لأحداث صعدة لا تكمن في غياب التفسيرات المختلفة للاسباب التي ادت الى اندلاعها ثم استمرارها ولكنها تكمن بشكل أساسي في كثرة الأسباب الى الحد الذي يصعب معه وفي ظل بقاء الأزمة على حالها تحديد سبب واحد أو بضعة اسباب مقنعة للازمة. فقد تولى الهاشميون تاريخيا الحكم وتولت الزيدية القبلية ممثلة بحاشد وبكيل المناصرة. وتغيرت الأدوار بقيام ثورة ال26 من سبتمبر حيث اصبح المناصرون حكاما والحكام انصارا. واذا كان الهاشميون قد قبلوا في الماضي وان على مضض بعملية تغيير الأدوار فان ظهور التوريث كخيار استراتيجي للزيدية القبلية وظهور وتنامي الفقر والفساد وتفريغ الآلية الديمقراطية من مضمونها قد خلقت كلها الظروف المواتية لقيام التمرد. والمتأمل في خطب حسين بدر الدين الحوثي الأب الروحي للحوثية سيلاحظ تركيزه الضمني على مسألة غياب الشرعية الجمهورية ومقارنته بين الحكم الجمهوري القائم وحكم الإئمة.
وبرغم اللامبالاة التي يظهرها الكثير من اليمنيين تجاه الصراع فان الملاحظ، وكما اثبتت الجولات السابقة من الحرب، ان الصراع يزداد تعقدا كلما طال عمره. فالحوثيون الذين لم يطرحوا مطالب سياسية واضحة خلال الجولات الثلاث الأولى صار لهم مطالب سياسية ودينية واضحة خلال الجولتين الرابعة والخامسة. وفي الوقت الذي كان فيه الصراع محصورا خلال الجولات الثلاث الأولى على الحكومة والمتمردين شهدت الجولة الرابعة دخول قطر ومن خلفها بعض القوى الإقليمية والدولية كوسيط في الأزمة. وفي الوقت الذي انحصرت فيه المواجهات العسكرية في الجولات السابقة على محافظة صعدة فانه يلاحظ ان المواجهات في الجولة الحالية تتم في ثلاث محافظات.
وفي الوقت الذي لم ينجح فيه الحوثيون خلال الجولات السابقة في تصوير الحرب على انها حرب طائفية فان الجولة الخامسة من جولات الصراع قد شهدت اختراقا حوثيا للاعلام الدولي يصور الصراع الدائر على انه صراع طائفي. ويظهر تحقيقا نشرته صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية المقربة من الحكومة الأمريكية يوم ال7 من يونيو 2008 الحوثيين وهم يقودون حربا ضد النظام اليمني المتحالف مع القاعدة والوهابيين المتشددين الذين ينظرون الى الشيعة على انهم خطر على المجتمعات والدول يجب استئصاله. وشهدت الأسابيع الثلاثة الأولى من الحرب تحول ربة بيت امريكية تقيم في ولاية نيوجرسي وتعرف باسم جين نوفاك وتنشط في القضايا الحقوقية وخصوصا تلك المتصلة بالشيعة في اليمن الى رمز اعلامي هام. وبعد ان كانت نوفاك تجد صعوبة في نشر افكارها في الصحف داخل الولايات المتحدة أصبحت فجأة حديث وسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية حيث قدمتها محطة فوكس نيوز اكثر المحطات الأمريكية مشاهدة على انها ربة بيت امريكية تمكنت من التحول الى العدو الأول للحكومة اليمنية. وظهرت نوفاك بعد ذلك في محطات اذاعية وتلفزيونية عديدة ليس فقط في الولايات المتحدة ولكن ايضا في اوروبا.
وتثير الطريقة التي يتطور بها الصراع القلق من ان استمرار الحرب قد يقود الى تورط اطراف خارجية في الصراع او ينتقل بالتمرد الى وضع الحرب الأهلية. ومع ان هناك من يقول ان السعودية تدعم النظام بالمال والأسلحة الإ ان ذلك القول غير واقعي. فقد اظهرت السنوات الماضية من الصراع ان القوى الإقليمية وفي مقدمتها السعودية وايران تدرك حساسية الوضع وتدرك ان تدخل اي منها لصالح طرف سيقود القوى الأخرى الى التدخل لدعم الطرف الآخر وهو ما قد يدفع باليمن الى حرب أهلية تستمر لعقود وتزعزع استقرار المنطقة بكاملها. ولا يبدو الحديث عن مخاوف سعودية من قيام دولة شيعية الى جنوبها قد تمتد الى بعض المناطق التي يسكنها الشيعة داخل الحدود السعودية منطقيا في ظل الدعم السعودي خلال ستينيات القرن الماضي للامام المخلوع.
واذا كانت الحلول السلمية قد فشلت او تم افشالها فان السؤال الذي يطرح نفسه يدور حول ما اذا كان "الحسم العسكري" الذي تتحدث عنه السلطة بشكل متكرر ممكنا. ومع ان الحكومة لا تقدم تعريفا ل"الحسم العسكري" وهو ما يقود الى الكثير من سوء الفهم الإ ان ما يفهم من الخطاب السياسي الحكومي المصاحب للحرب هو ان الحسم العسكري يعني ان يلقي الحوثيون باسلحتهم ويخلوا مواقعهم العسكرية ويعودوا الى قراهم.
وليس هناك جواب سهل على السؤال الخاص بمدى امكانية الحسم العسكري. فالمتأمل في التمردات التي شهدتها اليمن في القرن العشرين سيلاحظ بسهولة ان تلك التمردات قد حسمت في الغالب باستخدام القوة. لكن القياس التاريخي هنا قد لا يساعد في ترجيح كفة الداعين الى الإستمرار في الحرب حتى حدوث الحسم وذلك لإختلاف السياقات التاريخية عن المعاصرة. فللتمثيل فقط فان الإستخدام المفرط للقوة الذي كان ممكنا خلال النصف الأول من القرن العشرين لم يعد ممكنا الان واصبح يندرج ضمن جرائم الحرب التي قد تعرض مرتكبيها لعقوبات ومحاكمات وملاحقات دولية. ضف الى ذلك ان اليمن تواجه هذا التمرد وهي تعاني الكثير من التحديات الانية والإستراتيجية والتي تجعل استمرار الحرب بمثابة استزاف لقدرات البلاد المادية والبشرية.
ولا يشكل التمرد الدائر في صعدة بشكله الحالي ومهما طال امده خطرا على وحدة البلاد بشكل مباشر. لكن استمراره في ظل الظروف الإقتصادية الصعبة قد يكون له تداعياته الخطيرة على النظام السياسي وعلى الدولة اليمنية وبالتالي على الوحدة الوطنية والجغرافية للبلاد. ومن وجهة نظر الكاتب فان التركيز لا ينبغي ان يكون على الطريقة التي يتم بها حسم الصراع (القوة العسكرية أو الحوار) بل على مسألة الحسم ذاتها. فمن منظور المصلحة الوطنية فان حسم الصراع بالأدوات السلمية بسرعة هو بالتأكيد افضل بكثير من حسم الصراع بالقوة بعد شهور أو سنين.
القضية الجنوبية
يتفق اليمنيون جميعهم على وجود مظالم وقعت على ابناء المحافظات الجنوبية والشرقية ونتجت عن حرب عام 1994 وعن السياسات التي تم تبنيها من قبل النظام فيما بعد الحرب. لكنهم بعد ذلك يختلفون حول الطريقة التي يتم بها التعبير عن تلك المظالم. ففي حين ان بعض اليمنيين يرون ان ترديد الشعارات المعادية للوحدة والخروج في مسيرات ومظاهرات تدعو الى الإستقلال لا تمثل مشكلة طالما تم ذلك بطريقة سلمية، هناك في المقابل من يرى ان المظاهرات والمسيرات المعادية للوحدة قد تؤدي مع مرور الزمن ومع الظروف الإقتصادية الصعبة الى الإضرار بالوحدة.
ويلاحظ ان تعامل النظام مع الغضب الجنوبي، الذي يكمل عامه الأول عن قريب، قد تأرجح بين اليد اللينة واليد الغليظة. فرغم سقوط عدد من القتلى في المواجهات بين المواطنين وقوات الأمن في اكثر من مناسبة الإ انه بالنظر الى حجم المسيرات والمظاهرات والى طبيعة النظام يمكن القول بان النظام قد اظهر درجة عالية من ضبط النفس لمعظم الوقت. ولعلى اقصى درجات التصعيد قد حدثت في الفترة الأخيرة عندما قامت السلطة باعتقال الكثير من النشطاء وتقديم عددا منهم الى المحاكمات. ومع ان هناك من يعتقد ان مثل هذه الإعتقالات والمحاكمات يمكن ان تشكل رادعا الإ أن الخوف هو ان تؤدي مثل هذه المحاكمات التي يصعب تبريرها دستوريا وقانونيا وحتى اخلاقيا الى تصليب المواقف والوصول الى نتائج عكسية كما حدث في حالات سابقة وان في سياقات مختلفة. ضف الى ذلك ان الاعتقالات والمحاكمات التي تتم خارج الدستور والقانون والتشدد الذي يبديه النظام في مواجهة المعارضة تخلق شعورا يؤثر سلبا على امكانية حسم التمرد في صعدة أو التغلب على غضب الجنوب.
واذا كان التعديل الحكومي الأخير الذي تم ادخاله على حكومة الدكتور/علي محمد مجور في ال19 من مايو قد جاء ليقوي من القبضة الأمنية في بعديها العسكري والشرطوي، فانه قد أثار بالتأكيد قلق الطبقة السياسية من قيام النظام بالإنقلاب على اسس العقد الإجتماعي وفرض رؤيته ومصالحه على الآخرين داخل النظام وخارجه وبالحديد والنار كما يقولون. وتشكل اختراقات النظام المتكررة للدستور والقانون ومحاكمات الخيواني والقرني وغيرهم من الناشطين مبعث قلق واسع من ان النظام يمارس الإنتقام من خصومه ولا يفرق بين المعارضة السلمية وحمل السلاح في وجه الدولة.
وبالنسبة لجهود النظام في معالجة المشاكل والإختلالات والمظالم القائمة في المحافظات الجنوبية والتي شكلت الدافع الأعمق للغضب الجنوبي فقد قام النظام ببعض المعالجات حيث تم اعادة الكثير من الكوادر الجنوبية الى الخدمة وتم تسوية اوضاع اولئك الذين تم احالتهم الى التقاعد. وكان هناك تعيينات لبعض الكوادر الجنوبية في مواقع قيادية داخل المؤسسات المدنية والعسكرية. وقد ساعدت تلك الإجراءات في امتصاص بعض الغضب. وهناك رهان كبير على ان يلعب المحافظون الجدد للمحافظات الجنوبية والشرقية والذين تم اختيارهم—بغض النظر عن طريقة الإختيار—من بين ابناء تلك المحافظات دورا كبيرا في امتصاص غضب ابناء تلك المحافظات وفي معالجة المشاكل القائمة اولا باول. لكن الرهان على المحافظين او على المعالجات التي تم اتخاذها او على القبضة الأمنية وعدم المضي قدما في اصلاحات سياسية واقتصادية تفعل النظام القائم وتحسن من مستوى ادائه وبما يكفل تحسين مستوى المعيشة للناس في الشمال والجنوب على السواء قد يجعل مستقبل البلاد مفتوحا على كل الخيارات.
سياقات معقدة
يواجه النظام اليمني تمرد صعدة وغضب الجنوب وتهديدات القاعدة في ظل سياقات سياسية واقتصادية واجتماعية معقدة. فعلى الصعيد السياسي تعاني الطبقة السياسية في جانبيها الرسمي وغير الرسمي العديد من الإنقسامات التي اضعفت تماما ما يمكن تسميته ب"الإرادة الوطنية" التي هي بالتأكيد الضامن الأول للنظام والدولة. أما على الصعيد الإقتصادي فان البلاد تواجه وبالتزامن تراجع في انتاج النفط وفي المخزون المائي. وفي الوقت الذي ادت فيه ارتفاعات اسعار المواد الأساسية كالقمح والشعير الى التضييق على الكثير من اليمنيين في عيشهم يواجه الإقتصاد اليمني ضغوطا دولية لرفع اسعار المشتقات النفطية وللقيام بالعديد من الإصلاحات التي سيكون من شأنها التأثير سلبا على المزيد من السكان وبالتالي احداث المزيد من التآكل في شرعية النظام وفي القدرة على الحكم. اما على الصعيد الإجتماعي فان اليمن تواجه وبالتزامن ايضا معدل للنمو السكاني هو واحد من ضمن الأعلى في العالم واتساعا في رقعة الفقر وارتفاعا في معدلات البطالة وتدهورا في الخدمات الأساسية وعلى راسها الصحة والتعليم.
وفي بلد تتناقص فيه الموارد ويشتد الصراع حولها يلاحظ ان السياسات المختلفة التي تم تبنيها في الماضي قد قادت الى تبلور طبقتين اجتماعيتين: طبقة صغيرة متخمة واغلبية فقيرة معدمة. اما الطبقة الوسطى والتي يمكن ان تشكل الضامن للاستقرار فقد تلاشت. وفي ظل تركيبة اجتماعية مثل هذه سيكون من الصعب تحقيق اي شكل من اشكال الإستقرار. ومع ان تجارب الأنظمة في العالم الثالث في مثل هذه الظروف هي اللجوء الى توظيف الموارد المحددودة لتقوية ادوات القمع الإ ان تلك المعالجات نادرا ما تنجح. وتظل الشراكة الوطنية والتوافق السياسي هي الأقل تكلفة للنظام وللبلاد والخيار الأضمن والأسلم للجميع.
عن الأهالي بتاريخ السابع عشر من يونيو 2008
dralfaqih@yahoo.com
تقول احدى النكات المنتحلة ان مسئولا يمنيا رفيعا فرك خاتما يضعه في احدى اصابعه فخرج له عفريت وساله عن الحاجة التي يريد منه قضاءها. فما كان من المسئول الإ ان طلب من العفريت ان يعالج "النزعة الإنفصالية" التي تعتري الكثير من الناس في المحافظات الجنوبية. فطلب العفريت من المسئول اليمني ان يشرح له المشكلة بالتفصيل. وقد أجاب طالبه. ولما فرغ المسئول من شرحه اعتذر العفريت بادب عن حل المشكلة لإنها كما قال اكبر من طاقته. لكنه في نفس الوقت سأل المسئول عما اذا كان هناك مشكلة اصغر منها تتفق مع قدراته ويستطيع حلها. فطلب منه المسئول اليمني هذه المرة تحقيق مطالب الدكتور محمد حيدرة مسدوس الخاصة ب"اصلاح مسار الوحدة." فربما يكون ذلك كفيلا باعادة الأمور الى نصابها. فسأل العفريت محاوره عن تفاصيل مطالب مسدوس. فقال له المسئول ان مسدوس يطالب ب"الغاء الفتوى التي صدرت في عام 1994 وبررت الحرب؛ اعادة كافة المنهوبات العامة والخاصة من مؤسسات وممتلكات الجنوب؛ اعادة كافة الجنوبيين المشردين في الداخل والخارج الى وظائفهم ...الخ." وقبل ان يكمل المسئول قراءة مطالب مسدوس الستة قاطعه العفريت طالبا منه ان يعيد شرح "النزعة الإنفصالية" في الجنوب لإنها بدت له اقل تعقدا من مطالب مسدوس.
وتقترب النكتة كثيرا من طبيعة التحديات التي تواجهها الجمهورية اليمنية في الوقت الحاضر. فهناك في الجنوب معاناة كبيرة تعمل بعض النخب السياسية على توظيفها ضد الوحدة اليمنية. وهناك على مقربة من تلك النزعة الإنفصالية تيار يسعى لإصلاح مسار الوحدة ويطرح مطالب يبدو من المستحيل تحقيقها بالشكل الذي يتم طرحها به. ولا تقتصر التحديات بالطبع على الوضع في الجنوب. فالتمرد في صعدة يدخل عامه الخامس دون وجود مؤشرات على نهاية وشيكة سلمية كانت أو غير سلمية. وفي الوقت الذي يركز فيه هذا المقال على تحدي التمرد في صعدة والغضب في الجنوب فانه لا ينبغي التقليل من الخطر الذي يمثله الإرهاب على الإقتصاد الوطني وعلى علاقة اليمن بالعالم. وكل تحد من التحديات السابقة له جذوره التاريخية وتعقيداته الداخلية وامتداداته الخارجية. وما يزيد الوضع سوءا هو ان البلاد تواجه العديد من التحديات في نفس الوقت وفي ظل سياقات سياسية واقتصادية واجتماعية أكثر تعقيدا.
تمرد صعدة
بدأ التمرد في صعدة في عام 2004 وشهد حتى الان خمس جولات من المواجهات المسلحة بين القوات الحكومية من جهة والتمردين من جهة أخرى. وقد انتهت الجولات الثلاث الأولى بمصالحة بين الحكومة من جهة والمتمردين من جهة أخرى. لكن تلك المصالحات التي غلبت عليها السرية قادت الى جولات جديدة من الحرب. وبالنسبة للاتفاق الرابع والذي تم التوصل اليه بواسطة قطرية في يونيو 2007 فقد اختلف عن سابقيه من الإتفاقات حيث جاء مكتوبا ومعلنا ومحددا لآلية الحل. وتوفرت لإتفاق 2007 الكثير من شروط النجاح وأهمها وجود الوسيط الخارجي وتبني آلية للحل يشارك في تنفيذها معظم القوى السياسية. ورغم ذلك فقد انتهى به الأمر الى الفشل لأسباب كثيرة لا يتسع المجال هنا لمناقشتها. وكان هناك اتفاق خامس في الدوحة تلى الإتفاق الرابع وقاد الى الجولة الخامسة من الحرب.
ويمكن ادراج الصراع الدائر في صعدة تحت ذلك النوع من الصراعات الذي يبدأ فيه الأطراف بالصراع ثم يبحثون بعد ذلك عن الأسباب التي يمكن ان يبرروا بها الصراع. وتكون النتيجة هي ان الصراع ذاته يتحول الى سبب ونتيجة في نفس الوقت. فالدولة تحارب الحوثيون لإنهم يحاربونها والحوثيون يحاربون الدولة لإنها تحاربهم.
ولعل المشكلة التي تواجه المحلل بالنسبة لأحداث صعدة لا تكمن في غياب التفسيرات المختلفة للاسباب التي ادت الى اندلاعها ثم استمرارها ولكنها تكمن بشكل أساسي في كثرة الأسباب الى الحد الذي يصعب معه وفي ظل بقاء الأزمة على حالها تحديد سبب واحد أو بضعة اسباب مقنعة للازمة. فقد تولى الهاشميون تاريخيا الحكم وتولت الزيدية القبلية ممثلة بحاشد وبكيل المناصرة. وتغيرت الأدوار بقيام ثورة ال26 من سبتمبر حيث اصبح المناصرون حكاما والحكام انصارا. واذا كان الهاشميون قد قبلوا في الماضي وان على مضض بعملية تغيير الأدوار فان ظهور التوريث كخيار استراتيجي للزيدية القبلية وظهور وتنامي الفقر والفساد وتفريغ الآلية الديمقراطية من مضمونها قد خلقت كلها الظروف المواتية لقيام التمرد. والمتأمل في خطب حسين بدر الدين الحوثي الأب الروحي للحوثية سيلاحظ تركيزه الضمني على مسألة غياب الشرعية الجمهورية ومقارنته بين الحكم الجمهوري القائم وحكم الإئمة.
وبرغم اللامبالاة التي يظهرها الكثير من اليمنيين تجاه الصراع فان الملاحظ، وكما اثبتت الجولات السابقة من الحرب، ان الصراع يزداد تعقدا كلما طال عمره. فالحوثيون الذين لم يطرحوا مطالب سياسية واضحة خلال الجولات الثلاث الأولى صار لهم مطالب سياسية ودينية واضحة خلال الجولتين الرابعة والخامسة. وفي الوقت الذي كان فيه الصراع محصورا خلال الجولات الثلاث الأولى على الحكومة والمتمردين شهدت الجولة الرابعة دخول قطر ومن خلفها بعض القوى الإقليمية والدولية كوسيط في الأزمة. وفي الوقت الذي انحصرت فيه المواجهات العسكرية في الجولات السابقة على محافظة صعدة فانه يلاحظ ان المواجهات في الجولة الحالية تتم في ثلاث محافظات.
وفي الوقت الذي لم ينجح فيه الحوثيون خلال الجولات السابقة في تصوير الحرب على انها حرب طائفية فان الجولة الخامسة من جولات الصراع قد شهدت اختراقا حوثيا للاعلام الدولي يصور الصراع الدائر على انه صراع طائفي. ويظهر تحقيقا نشرته صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية المقربة من الحكومة الأمريكية يوم ال7 من يونيو 2008 الحوثيين وهم يقودون حربا ضد النظام اليمني المتحالف مع القاعدة والوهابيين المتشددين الذين ينظرون الى الشيعة على انهم خطر على المجتمعات والدول يجب استئصاله. وشهدت الأسابيع الثلاثة الأولى من الحرب تحول ربة بيت امريكية تقيم في ولاية نيوجرسي وتعرف باسم جين نوفاك وتنشط في القضايا الحقوقية وخصوصا تلك المتصلة بالشيعة في اليمن الى رمز اعلامي هام. وبعد ان كانت نوفاك تجد صعوبة في نشر افكارها في الصحف داخل الولايات المتحدة أصبحت فجأة حديث وسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية حيث قدمتها محطة فوكس نيوز اكثر المحطات الأمريكية مشاهدة على انها ربة بيت امريكية تمكنت من التحول الى العدو الأول للحكومة اليمنية. وظهرت نوفاك بعد ذلك في محطات اذاعية وتلفزيونية عديدة ليس فقط في الولايات المتحدة ولكن ايضا في اوروبا.
وتثير الطريقة التي يتطور بها الصراع القلق من ان استمرار الحرب قد يقود الى تورط اطراف خارجية في الصراع او ينتقل بالتمرد الى وضع الحرب الأهلية. ومع ان هناك من يقول ان السعودية تدعم النظام بالمال والأسلحة الإ ان ذلك القول غير واقعي. فقد اظهرت السنوات الماضية من الصراع ان القوى الإقليمية وفي مقدمتها السعودية وايران تدرك حساسية الوضع وتدرك ان تدخل اي منها لصالح طرف سيقود القوى الأخرى الى التدخل لدعم الطرف الآخر وهو ما قد يدفع باليمن الى حرب أهلية تستمر لعقود وتزعزع استقرار المنطقة بكاملها. ولا يبدو الحديث عن مخاوف سعودية من قيام دولة شيعية الى جنوبها قد تمتد الى بعض المناطق التي يسكنها الشيعة داخل الحدود السعودية منطقيا في ظل الدعم السعودي خلال ستينيات القرن الماضي للامام المخلوع.
واذا كانت الحلول السلمية قد فشلت او تم افشالها فان السؤال الذي يطرح نفسه يدور حول ما اذا كان "الحسم العسكري" الذي تتحدث عنه السلطة بشكل متكرر ممكنا. ومع ان الحكومة لا تقدم تعريفا ل"الحسم العسكري" وهو ما يقود الى الكثير من سوء الفهم الإ ان ما يفهم من الخطاب السياسي الحكومي المصاحب للحرب هو ان الحسم العسكري يعني ان يلقي الحوثيون باسلحتهم ويخلوا مواقعهم العسكرية ويعودوا الى قراهم.
وليس هناك جواب سهل على السؤال الخاص بمدى امكانية الحسم العسكري. فالمتأمل في التمردات التي شهدتها اليمن في القرن العشرين سيلاحظ بسهولة ان تلك التمردات قد حسمت في الغالب باستخدام القوة. لكن القياس التاريخي هنا قد لا يساعد في ترجيح كفة الداعين الى الإستمرار في الحرب حتى حدوث الحسم وذلك لإختلاف السياقات التاريخية عن المعاصرة. فللتمثيل فقط فان الإستخدام المفرط للقوة الذي كان ممكنا خلال النصف الأول من القرن العشرين لم يعد ممكنا الان واصبح يندرج ضمن جرائم الحرب التي قد تعرض مرتكبيها لعقوبات ومحاكمات وملاحقات دولية. ضف الى ذلك ان اليمن تواجه هذا التمرد وهي تعاني الكثير من التحديات الانية والإستراتيجية والتي تجعل استمرار الحرب بمثابة استزاف لقدرات البلاد المادية والبشرية.
ولا يشكل التمرد الدائر في صعدة بشكله الحالي ومهما طال امده خطرا على وحدة البلاد بشكل مباشر. لكن استمراره في ظل الظروف الإقتصادية الصعبة قد يكون له تداعياته الخطيرة على النظام السياسي وعلى الدولة اليمنية وبالتالي على الوحدة الوطنية والجغرافية للبلاد. ومن وجهة نظر الكاتب فان التركيز لا ينبغي ان يكون على الطريقة التي يتم بها حسم الصراع (القوة العسكرية أو الحوار) بل على مسألة الحسم ذاتها. فمن منظور المصلحة الوطنية فان حسم الصراع بالأدوات السلمية بسرعة هو بالتأكيد افضل بكثير من حسم الصراع بالقوة بعد شهور أو سنين.
القضية الجنوبية
يتفق اليمنيون جميعهم على وجود مظالم وقعت على ابناء المحافظات الجنوبية والشرقية ونتجت عن حرب عام 1994 وعن السياسات التي تم تبنيها من قبل النظام فيما بعد الحرب. لكنهم بعد ذلك يختلفون حول الطريقة التي يتم بها التعبير عن تلك المظالم. ففي حين ان بعض اليمنيين يرون ان ترديد الشعارات المعادية للوحدة والخروج في مسيرات ومظاهرات تدعو الى الإستقلال لا تمثل مشكلة طالما تم ذلك بطريقة سلمية، هناك في المقابل من يرى ان المظاهرات والمسيرات المعادية للوحدة قد تؤدي مع مرور الزمن ومع الظروف الإقتصادية الصعبة الى الإضرار بالوحدة.
ويلاحظ ان تعامل النظام مع الغضب الجنوبي، الذي يكمل عامه الأول عن قريب، قد تأرجح بين اليد اللينة واليد الغليظة. فرغم سقوط عدد من القتلى في المواجهات بين المواطنين وقوات الأمن في اكثر من مناسبة الإ انه بالنظر الى حجم المسيرات والمظاهرات والى طبيعة النظام يمكن القول بان النظام قد اظهر درجة عالية من ضبط النفس لمعظم الوقت. ولعلى اقصى درجات التصعيد قد حدثت في الفترة الأخيرة عندما قامت السلطة باعتقال الكثير من النشطاء وتقديم عددا منهم الى المحاكمات. ومع ان هناك من يعتقد ان مثل هذه الإعتقالات والمحاكمات يمكن ان تشكل رادعا الإ أن الخوف هو ان تؤدي مثل هذه المحاكمات التي يصعب تبريرها دستوريا وقانونيا وحتى اخلاقيا الى تصليب المواقف والوصول الى نتائج عكسية كما حدث في حالات سابقة وان في سياقات مختلفة. ضف الى ذلك ان الاعتقالات والمحاكمات التي تتم خارج الدستور والقانون والتشدد الذي يبديه النظام في مواجهة المعارضة تخلق شعورا يؤثر سلبا على امكانية حسم التمرد في صعدة أو التغلب على غضب الجنوب.
واذا كان التعديل الحكومي الأخير الذي تم ادخاله على حكومة الدكتور/علي محمد مجور في ال19 من مايو قد جاء ليقوي من القبضة الأمنية في بعديها العسكري والشرطوي، فانه قد أثار بالتأكيد قلق الطبقة السياسية من قيام النظام بالإنقلاب على اسس العقد الإجتماعي وفرض رؤيته ومصالحه على الآخرين داخل النظام وخارجه وبالحديد والنار كما يقولون. وتشكل اختراقات النظام المتكررة للدستور والقانون ومحاكمات الخيواني والقرني وغيرهم من الناشطين مبعث قلق واسع من ان النظام يمارس الإنتقام من خصومه ولا يفرق بين المعارضة السلمية وحمل السلاح في وجه الدولة.
وبالنسبة لجهود النظام في معالجة المشاكل والإختلالات والمظالم القائمة في المحافظات الجنوبية والتي شكلت الدافع الأعمق للغضب الجنوبي فقد قام النظام ببعض المعالجات حيث تم اعادة الكثير من الكوادر الجنوبية الى الخدمة وتم تسوية اوضاع اولئك الذين تم احالتهم الى التقاعد. وكان هناك تعيينات لبعض الكوادر الجنوبية في مواقع قيادية داخل المؤسسات المدنية والعسكرية. وقد ساعدت تلك الإجراءات في امتصاص بعض الغضب. وهناك رهان كبير على ان يلعب المحافظون الجدد للمحافظات الجنوبية والشرقية والذين تم اختيارهم—بغض النظر عن طريقة الإختيار—من بين ابناء تلك المحافظات دورا كبيرا في امتصاص غضب ابناء تلك المحافظات وفي معالجة المشاكل القائمة اولا باول. لكن الرهان على المحافظين او على المعالجات التي تم اتخاذها او على القبضة الأمنية وعدم المضي قدما في اصلاحات سياسية واقتصادية تفعل النظام القائم وتحسن من مستوى ادائه وبما يكفل تحسين مستوى المعيشة للناس في الشمال والجنوب على السواء قد يجعل مستقبل البلاد مفتوحا على كل الخيارات.
سياقات معقدة
يواجه النظام اليمني تمرد صعدة وغضب الجنوب وتهديدات القاعدة في ظل سياقات سياسية واقتصادية واجتماعية معقدة. فعلى الصعيد السياسي تعاني الطبقة السياسية في جانبيها الرسمي وغير الرسمي العديد من الإنقسامات التي اضعفت تماما ما يمكن تسميته ب"الإرادة الوطنية" التي هي بالتأكيد الضامن الأول للنظام والدولة. أما على الصعيد الإقتصادي فان البلاد تواجه وبالتزامن تراجع في انتاج النفط وفي المخزون المائي. وفي الوقت الذي ادت فيه ارتفاعات اسعار المواد الأساسية كالقمح والشعير الى التضييق على الكثير من اليمنيين في عيشهم يواجه الإقتصاد اليمني ضغوطا دولية لرفع اسعار المشتقات النفطية وللقيام بالعديد من الإصلاحات التي سيكون من شأنها التأثير سلبا على المزيد من السكان وبالتالي احداث المزيد من التآكل في شرعية النظام وفي القدرة على الحكم. اما على الصعيد الإجتماعي فان اليمن تواجه وبالتزامن ايضا معدل للنمو السكاني هو واحد من ضمن الأعلى في العالم واتساعا في رقعة الفقر وارتفاعا في معدلات البطالة وتدهورا في الخدمات الأساسية وعلى راسها الصحة والتعليم.
وفي بلد تتناقص فيه الموارد ويشتد الصراع حولها يلاحظ ان السياسات المختلفة التي تم تبنيها في الماضي قد قادت الى تبلور طبقتين اجتماعيتين: طبقة صغيرة متخمة واغلبية فقيرة معدمة. اما الطبقة الوسطى والتي يمكن ان تشكل الضامن للاستقرار فقد تلاشت. وفي ظل تركيبة اجتماعية مثل هذه سيكون من الصعب تحقيق اي شكل من اشكال الإستقرار. ومع ان تجارب الأنظمة في العالم الثالث في مثل هذه الظروف هي اللجوء الى توظيف الموارد المحددودة لتقوية ادوات القمع الإ ان تلك المعالجات نادرا ما تنجح. وتظل الشراكة الوطنية والتوافق السياسي هي الأقل تكلفة للنظام وللبلاد والخيار الأضمن والأسلم للجميع.
عن الأهالي بتاريخ السابع عشر من يونيو 2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق