د عبد الله الفقيه
تشكل في صنعاء يوم ال14 من مايو 2008 ماسمي ب"حملة مدنية لمناصرة ضحايا محرق خميس مشيط." وقد تشكلت اللجنة برئاسة الدكتور ابو بكر السقاف والذي يدرس الفلسفة بجامعة صنعاء ويعد ابرز المناصرين والمنظرين لإعادة تقسيم اليمن الى دولتين. وقد عكست كتاباته في صحف "النداء" و"التجمع" و"الثوري" وغيرها توجها يرى في وحدة الجنوب مع الشمال خطئا تاريخيا يجب تصحيحه. كما ضمت اللجنة في عضويتها الأستاذة/ أمل الباشا عضو الحزب الحاكم ورئيس " منتدى الشقائق العربي لحقوق الإنسان" وعلي الديلمي مدير "المنظمة اليمنية للدفاع عن الحقوق والحريات" والقيادي في اتحاد القوى الشعبية وعبد الباري طاهر النقيب السابق للصحفيين اليمنيين والقيادي كذلك في الحزب الاشتراكي وغيرهم من الأسماء المألوفة.
والغريب ان اللجنة ضمت في عضويتها، كما جاء في البلاغ الصحفي، عز الدين الأصبحي رئيس "مركز المعلومات والتأهيل لحقوق الإنسان" وعضو المؤتمر الشعبي العام برغم ان الأصبحي يعمل عضوا في اللجنة العليا لمكافحة الفساد التي يحرم قانونها على اعضائها مزاولة اي عمل عام أو خاص خلال فترة العضوية. لكن عز الدين ما زال يمارس عمله مكتفيا بتعيين رئيس صوري للمركز. ولا ينظم مركز المعلومات اي نشاط في الداخل أو الخارج الإ ويرى الناس الأصبحي على المنصة. ويتوقع ان ينعكس موقع عز الدين في هيئة مكافحة الفساد ايجابا على انشطة مركزه وخصوصا وانه يرأس ما يسمى بقطاع المجتمع المدني.
حادثة خميس مشيط
تتلخص حادثة خميس مشيط على ذمة مجموعة كبيرة من المواقع والصحف اليمنية (بما في ذلك تلك التابعة للحزب الحاكم) في ان السلطات السعودية في خميس مشيط لاحقت مجموعة من اليمنيين المتسللين بطرق غير شرعية الى ان وصلوا الى محوى للقمامة واختبأوا فيه. وتقول الرواية ان اجهزة الأمن السعودية قد قامت بصب البنزين في المحوى واشعال الحريق، رغم علمها الأكيد بوجود الأشخاص بداخله، وهو ما ادى الى اصابة العديد منهم بحروق. وقد نقل عن الضحايا قولهم "كنا في منطقة خميس دخلنا الساعة الخامسة مساءً من يوم أحد في حفرة كبيرة حفرناها للاختباء وهي واقعة خارج مدينة الخميس بسبعة كيلو تقريباً طاردتنا أربع سيارات شرطة وأمن عام ودورية كان فيها عسكر حوالي (12) جندي فيهم لابسين لبس مدني كنا مطمئنين إننا نجونا ولم نتوقع أنهم تبعونا لكنهم رشوا بنزين على هذه المنطقة وأشعلوا النار ، الذين فروا قبل الإشعال نجو والبقية (18) بقوا في الحفرة الكبيرة مكثوا فيها ولم يتوقعوا إشعال النار لكنهم فعلوها وأشعلوا النار الذي كان يغطي الحفرة."
وبالنسبة للسلطات السعودية فترد برواية أخرى للحادثة. فقد صرحت ادارة الدفاع المدني بمنطقة عسير عند وقوع الحادثة بان 18 من "مجهولي الهوية" اصيبوا بحروق متباينة في حريق بمرمى النفايات بمحافظة خميس مشيط وان فرق الدفاع المدني سارعت الى اخماد الحريق ونقل المصابين الى المستشفى. وعندما تناقلت المواقع والصحف اليمنية الخبر سارعت السلطات السعودية الى نفيه مؤكدة على تصريحها السابق ومضيفة "ان الحريق اندلع أولا في إطارات سيارات ونفايات وامتد إلى مساحة (50) مترا،... وان المصابين من المجهولين الذين كانوا متواجدين في الموقع لنبش القمامة من الجنسية اليمنية قد قضوا مدة أسبوع بالمستشفى المدني بخميس مشيط حيث خرجوا من المستشفى للترحيل إلى بلدهم عن طريق منفذ الطوال ولا زالت الجراح نادية ومتقرحة."
والملفت للانتباه هو ان النفي السعودي لعملية الحرق المتعمد على لسان الناطق الإعلامي لشرطة منطقة عسير قد اضاف "إن هؤلاء المجهولين تعودوا التسلل إلى منطقة عسير للسرقة والسلب والنهب وقد بلغت جرائمهم في منطقة عسير للعام المنصرم 1428ه وحتى تاريخ1429/3/30ه ما مجموعه (189) قضية بالإضافة إلى اعتراف عصابة منهم بارتكاب(54) قضية منها (10) قضايا قتل تم التصريح عنها مسبقاً."
ويلاحظ على التصريحات السعودية وجود بعض جوانب التناقض والغموض. من جهة، فان وصف الضحايا في التصريحات التي صاحبت وقوع الحادثة ب"مجهولي الهوية" لا يبدو منطقيا وذلك لتميز سحنة اليمنيين عن غيرهم ولقرب مكان الحادثة من الحدود اليمنية السعودية ناهيك عن اللغة التي يتكلمها مجهولوا الهوية كما وصفوا. من جهة ثانية، تتسم الإتهامات السعودية للمجموعة التي تعرضت للحريق بالغموض وخصوصا وان السلطات السعودية كما تقول قامت بترحيلهم بعد اسبوع. فهل يعقل ان يتم ترحيل اشخاص ارتكبوا جرائم قتل؟ من جهة ثالثة، في الوقت الذي يحسب فيه للسلطات السعودية بانها قامت باطفاء الحريق ونقلت المصابين الى المستشفى واخضعتهم للمعالجة لمدة اسبوع فان الملاحظ ان السلطات السعودية قامت مع ذلك بترحيل المجموعة بما في ذلك شخص وصفت حالته بالخطرة.
والهدف هنا ليس تبرئة طرف أو ادانة آخر. فالمعاملة السيئة لليمنيين في السعودية هي قضية تطرح دائما. وفي المقابل فان تسلل اليمنيين الى السعودية بطرق غير قانونية هو مشكلة يومية بالنسبة للسعوديين لا ينبغي التقليل من حجمها. والمنتظر من السلطات السعودية في حالة مثل هذه ليس غض الطرف او التغطية على هذه القضايا ولكن التحقيق فيها واعلان نتائجها يشجاعة. فذلك وحده هو الكفيل بوضع الأمور في نصابها الصحيح. والكاتب هنا يتفق مع الكاتب السعودي تركي الدخيل والذي قال في مقال له حول الحادثة نشر في صحيفة الوطن السعودية: "والحقيقة أن هذا التصرف لو كان صدر عن عمد فهو جريمة بالفعل، فكون العمّال غير شرعيين، ووجودهم في السعودية غير قانوني، لا يُلغي إنسانيتهم بطبيعة الحال، ولا ينفي حقوقهم كبشر قبل كل شيء."
أبعاد الحملة
سيكون من السذاجة ان يعتقد الإنسان ان الذي ينظر لإعادة تجزئة اليمن يمكن ان يهتم لأمر 18 عاملا تعرضوا للحريق أو ان الصحافة اليمنية ستقضي أسابيع وهي تلوك نفس التفاصيل المتعلقة بمأساة العمال دون جهود كبيرة من خلف الستار لتحريك القضية. والمتابع للطريقة التي تم بها تغطية حادثة خميس مشيط وللحملة المدنية التي تم تشكيلها سيلحظ دون ادنى مشقة بان البعض قد حاول ركوب موجة الحريق لتحقيق اهداف مختلفة لا علاقة لها بالضحايا ولا بمصالح اليمن. فقد تم الخروج بالحادثة عن سياقها الطبيعي ليتم اعطائها ابعادا أخرى لا تخدم اي من الدولتين وتضر باليمن ومصالحه بشكل كبير. ويبدو ان الغرض الرئيس من الهجمة الإعلامية، رغم ما يحيط بها من غموض، قد كان الحاق الضرر بالعلاقات اليمنية السعودية نكاية بالسعودية وبالنظام اليمني ولإدخال الجميع في دوامة اشد في حجمها وعواقبها من حادثة خميس مشيط.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة يتصل بالأبعاد المختلفة لتلك الحملة الإعلامية و بسر التصعيد فيها وفي هذا الظرف التاريخي بالذات. ولا تكمن المشكلة هنا في غياب التفسيرات ولكنها تكمن في كثرتها وتداخلها. والمشكلة الكبيرة بالنسبة لليمن في هذه المرحلة هي طغيان الأجندات الشخصية والحزبية وتراجع الأجندة الوطنية إلى الخلف وهو ما يجعل مصالح اليمنيين أينما كانوا في خطر شديد. وبالنسبة للتفسيرات فالحملة، أولا، قد تمثل تعبيرا طبيعيا عن أجندة اليسار اليمني ممثلا بتياراته القومية والاشتراكية والذي ظل يحمل قدرا من العداء للسعودية برغم "سقوط الإيديولوجيات" وبرغم اختلاف الظروف. وإذا كان عداء اليسار اليمني للسعودية قد عبر عن نفسه خلال السنوات الماضية بشكل هزيل من خلال مقالات نشرت هنا وهناك وغالبا ما أدت إلى ردود فعل قاسية من قبل السلطة فان التغلغل الذي حققه اليسار اليمني داخل السلطة خلال السنوات الماضية قد مكنه كما يبدو من تنفيذ هذه الحملة الإعلامية المضرة باليمن والتي استخدم فيها الصحف والمواقع المستقلة أو تلك الناطقة باسم المعارضة لإثارة القضية ثم استخدم بعد ذلك مجموعة من الصحف المدعومة من بعض أجنحة الحزب الحاكم لمتابعة الحملة.
ثانيا، قد يكون جوهر الحملة هو اضعاف اليمين اليمني ممثلا بالتجمع اليمني للاصلاح والمشايخ والقوى التقليدية ورموز السلطة وغيرها من القوى التي يناصبها اليسار اليمني العداء "كمبدأ" لا يخضع للمناقشة. ويلاحظ ان اليسار اليمني قد تمكن خلال السنوات الماضية من استخدام مواقعه في السلطة ليعمل على إضعاف اليمين اليمني تارة من خلال الحملات الإعلامية وأخرى من خلال تحريض الخارج عليها وثالثة من خلال ضرب العلاقة فيما بينها. وتواجه مكتسبات اليسار اليمني التي تحققت خلال السنوات السابقة ضغوطا كبيرة من خلال تلويح النظام بإنشاء هيئة "تنمية الفضيلة" ومن خلال التقارب بين الرئيس وأنجال الشيخ الأحمر ومن خلال سعي حاشد إلى توحيد صفوفها وغير ذلك من الضغوط.
ثالثا، جاءت الحملة في سياق سياسي تتأزم فيه العلاقات الإقليمية وخصوصا بين السعودية وايران حول الوضع في لبنان والدور السوري واشياء أخرى. ومن غير المستبعد ان تكون الحملة الصحفية ضد السعودية ذات تشعبات اقليمية وخصوصا وان المنابر الإعلامية للقوميين قد استهجنت عدم مشاركة الرئيس علي عبد الله صالح في مؤتمر القمة العربية الذي عقد مؤخرا في سوريا وعزت ذلك لضغوط سعودية مورست ضده.
رابعا، ربما كان هدف البعض من الحملة هو الضغط على السعودية لتغيير موقفها من قضايا مثل الحراك في المحافظات الجنوبية والحرب في صعدة. والملاحظ ان السعودية وفي سابقة غير مألوفة قد عبرت رسميا عن موقفها من الأحداث في صعدة (انظر عدد السياسية ليوم 14 مايو) حيث طالبت بحل الخلاف ودعت الحوثيين الى الإستجابة لجهود الحل السلمي. كما شهدت الفترة ذاتها غياب بعض الشخصيات الجنوبية المحسوبة على أو المتواجدة في السعودية وبعض دول الخليج الأخرى عن المشهد الإعلامي المصاحب للحراك الجنوبي. وكان المتمردون في صعدة – وما زالوا— يتهمون السعودية بدعم النظام في حربه ضدهم وان كانوا لم يقدموا أي دليل مادي على وجود ذلك الدعم. وفي الوقت الذي خفف فيه المتمردون من خطابهم الإتهامي للسعودية فان الملاحظ ان السعودية قد التزمت الصمت. وحيث ان وجود الدعم السعودي أو غيابه للنظام لا يغير في الواقع من موازين القوى شيئا فان الاتهامات الحوثية للسعودية ربما هدفت الى الحصول على دعم بعض الأطراف الشيعية أو تلك المعادية للسعودية في الداخل والخارج.
خامسا، ليس من المستبعد ان هجوم الصحف والمواقع اليمنية ضد السعودية له امتداداته الأمريكية حيث ظهر وفي نفس الفترة نشاط إعلامي معاد للسعودية في العاصمة الأمريكية. وربما وجد اليمنيين أنفسهم طرفا في مهاترات أمريكية سعودية لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
واجمالا فانه يمكن القول بانه تتقاطع في الحملة الإعلامية التي تشنها بعض الصحف اليمنية ضد السعودية صراعات الأجنحة داخل السلطة، مظاهرات الجنوب، احداث صعدة، احداث لبنان، وصراعات الملكيين والجمهوريين والقوميين والإسلاميين واليمين واليسار والتنافس الأمريكي الإيراني والسياسة الأمريكية الساعية الى اذابة القبيلة في اليمن وغيرها من المصالح والمواقف والتحالفات وهو ما يزيد من خطورة الحملة على العلاقات بين البلدين وعلى الإستقرار في المنطقة.
السياسات المطلوبة
بغض النظر عن الأسباب والدوافع الحقيقية للحملة الصحفية ضد السعودية وبغض النظر كذلك عن الشخصيات والتيارات التي تقف خلفها فان الحملة من منظور المصلحة الوطنية قد كانت "هدامة" بكل ما تعنيه الكلمة من معنى وتضر بمصالح اليمن ككل وليس فقط بالنظام القائم. ومع ان البعض قد يحاول تمرير مثل هذا العمل التخريبي تحت لا فتة "حرية التعبير" الإ ان الواقع انه لا يمكن فصل حرية التعبير عن مصلحة المجتمع والإ تحولت تلك الحرية إلى انتحار جماعي لأفراد المجتمع. وفي الوقت الذي يجب فيه على المجتمع ان يضمن أقصى قدر من الحرية للفرد فانه لا ينبغي لتلك الحرية في كل الأحوال ان تضر بمصلحة المجتمع ككل. وفي حال وجود تناقض بين مصالح الأغلبية والأقلية في اي مجتمع فان مثل ذلك التناقض يستدعي دخول الأكثرية والأقلية في حوار يمكن معه للاغلبية ان تحافظ على مصالحها دون الإضرار بحقوق الأقلية. وجانب المسئولية في هذا الجانب لا يفرضه القانون فحسب ولكنه التزام ذاتي من الأفراد وثقافة يتم تطويرها.
هناك بالتأكيد حالة انسانية ينبغي على وسائل الإعلام التوقف عندها بمهنية ومسئولية ولفت أنظار المسئولين اليمنيين والسعوديين إليها. لكن استخدام مأساة مثل هذه لغرض الابتزاز أو لممارسة الانتقام السياسي أو لتحقيق مكاسب معينة هو عمل لا يقل "بشاعة" عن حادثة "الحرق" ذاتها. "لقد تجاوز بعض...اليمنيين في التفاعل مع الحادثة" كما ذكر الكاتب السعودي تركي الدخيل في مقاله المشار إليه بعاليه "إلى درجة الإساءة إلى السعودية نظاماً وحكومة وشعباً، وهذا ما لا يقول به عاقل، ولا يقره منطق، فخطأ البعض لا يمكن أن يعمم على الكل، هذا على فرض كون خطأ حصل." ولقد أحسن الدخيل عندما استخدم كلمة "بعض" وان كان أصحاب ذلك الموقف هم اقل بكثير من ان يكونوا بعضا. وحتى لو افترض الإنسان جدلا بأن الحادثة قد وقعت عمدا، فان المفترض هو ان هناك قنوات دبلوماسية يتم من خلالها النقاش حول هذه الأمور وليس عبر وسائل الإعلام وبطريقة رخيصة ومسفة. وليس من المنطقي أبدا ان تترك العلاقات اليمنية السعودية لبعض الأطراف لتصطاد في الماء العكر وتستغل مشكلة تهريب اليمنيين إلى السعودية والمعاملة غير اللائقة التي يلقونها هناك لتعمل على توتير الأجواء بين اليمن والسعودية وعلى خلق المزيد من الإضرار باليمن ومصالح ابنائه.
وفي الوقت الذي ينبغي فيه على اليمنيين ان يدركوا انه لا يمكن حل مشاكلهم عن طريق تهريب اليمنيين إلى السعودية فان على السعوديين ان يدركوا بدورهم بان مواجهة تسلل اليمنيين لا يمكن ان يواجه ببناء الأسوار العازلة أو بالمعاملة السيئة. وكما ان على الحكومة اليمنية التزامات تجاه السعودية فان على الحكومة السعودية التزامات تجاه اليمن. وتلك الالتزامات المتبادلة ليست "سنة" بل هي فرض تحتمه الجغرافيا والمصير المشترك. ومهما كانت طبيعة العلاقات بين اليمن والسعودية في الظرف الحالي فان الشيء الأكيد هو ان مصالح اليمن والسعودية تتطابق الآن كما لم يحدث خلال قرن من الزمن. وسيكون من الخطأ ان يضيع السعوديون واليمنيون هذا القدر من تطابق المصالح فلا يعملون على المضي قدما في تطبيع العلاقات والعمل معا لمعالجة المشاكل القائمة. وفي الوقت الذي يمكن فيه لليمنيين والسعوديين ان يختلفوا حول العديد من القضايا فان الشيء الذي لا ينبغي الاختلاف حوله هو هذا التطابق القائم بين مصالح اليمن ومصالح السعودية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق