د. عبد الله الفقيه
استاذ العلوم السياسية في جامعة صنعاء
للجمهورية اليمنية في الظرف الدقيق الذي تمر به حليفين رئيسيين هما المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة ويتسم موقفهما مما يجري في اليمن بالكثير من الغموض الذي يبعث على الشك. وفي اليمن قبلية وطائفية ومناطقية وعرقية وبنية اجتماعية تقوم على تراتبية متجذرة في الوعي والممارسة ولم تتمكن التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المحدودة خلال نصف قرن من اضعافها بالقدر الكافي. ومقابل كل ذلك هناك نظام اسري عفن شغل نفسه طيلة ثلث قرن بالحفاظ على نفسه فبنى ترسانة عسكرية تعتبر في بعض الجوانب الأقوى في الجزيرة العربية وراح بعد ذلك ولسنين يدك بطائرات الميج منازل مواطنيه في الشمال والجنوب ويقتل النساء والأطفال والشيوخ ويزعزع الاستقرار الإقليمي والدولي.
وهناك احزاب في اليمن اثبتت ثورة فبراير 2011 انها ليست اقل قبلية ولاطائفية ولا مناطقية من القبائل والطوائف والمناطق. وهناك ثورة بدأها الشباب ثم انضم اليها الكثيرون بخيرهم وبشرهم وسواء اكانوا حلفاء لصالح خلال فترة حكمه او معارضين له. واذا كانت الثورة الشبابية الشعبية قد دفعت خلال اشهرها الأولى بأجمل ما في اليمنيين الى الواجهة فإن ما تعرضت له من اعاقة مقصودة من قبل الفاعلين الداخلين والخارجيين قد ادى الى ابراز أسوأ ما في اليمن واليمنيين.
وبينت تطورات الأشهر الماضية ان في اليمن خمس ثورات في ثورة واحدة تتفق فيما بينها في هدف التخلص من صالح واسرته ثم تتناقض اهدافها بعد ذلك، والثورات الخمس هي: ثورة الجيش اليمني؛ ثورة قبيلة حاشد؛ ثورة قبيلة بكيل؛ ثورة الهاشميين؛ وثورة اليمنيين الجنوبيين. اما الشباب الذين بدأوا الثورة متحررين من كل عقد واحقاد وثارات الماضي ومثلوا القوة المركزية التي جذبت الكل ووجهت شراعها نحو المستقبل فقد تحولوا مع مرور الأيام الى مجرد مسامير في اجسام سفن الثورة الخمس التي تتسابق على الفوز بجائزة السلطة. وكان من الطبيعي ان تتلاشى مع مرور الأيام اصوات بشرى المقطري، توكل كرمان، خالد الانسي، رضوان المسعودي، وغيرهم من الشباب الذين فجروا الثورة ليحل محلها اصوات ذات بصمة ترتبط في الذاكرة والوعي الجمعي بالقبيلة والطائفة والمنطقة والمحسوبية السياسية.
ومن الواضح ان كل ثورة من الثورات الخمس السابقة كان لها دعوتها التي عملت تحت الأرض داخل النظام وخارجه لسنوات عديدة وفي معزل كلي او جزئي عن الثورات الأخرى وان كانت قد سعت لأن يكون لها انصارها بين الجماعات الأخرى. واذا كانت ثورة الهاشميين السلمية قد بدأت في فبراير 2011 مع سائر الفئات اليمنية الأخرى، فإن ثورتهم المسلحة كانت قد بدأت قبل ذلك بسبع سنين على الأقل. أما ثورة الجنوبيين على ما يسمونهم بالمستعمرين الشماليين فقد بدأت كدعوة في عام 1994 ثم انتظمت كحركة احتجاجية سلمية في الشارع الجنوبي في عام 2007. وانطلقت ثورة قبيلة حاشد وثورة الجيش كدعوة وكصراع صامت قبل اكثر من عقد ونصف من الزمن. وبالنسبة لدعوة ثورة قبيلة بكيل ضد حاشد فإنها تبدو قديمة جدا لكنها لم تكتسب قوة وصلابة الا خلال السنوات القليلة الماضية وهي السنوات التي شهدت احتدام الصراع داخل قبيلة حاشد التي نظر اليها اليمنيون خلال العقود الثلاثة الماضية على انها القبيلة الحاكمة التي استأثرت بكل شيىء. ولكل ثورة من ثورات اليمن الخمس المشار اليها اعلاه انصارها وداعميها واعدائها في الداخل والخارج.
وكنتيجة لكل ما سبق تجد الثورة اليمنية ضد صالح نفسها امام خمسة تعريفات متناقضة للثورة. فاليمنيون الجنوبيون يعرفون الثورة القائمة بانها تحرير جنوب اليمن من استعمار الشمال، اي انها ثورة ضد نظام صالح وضد الثورات الأربع الأخرى. ويعرف الهاشميون الثورة بانها اعادة الحق المقدس في الحكم الى اصحابه بعد خمسين عاما من الاختطاف، اي ان ثورتهم ليست فقط ضد نظام صالح ولكنها ايضا ثورة ضد الجيش الثائر وضد قبيلة حاشد وضد قبيلة بكيل وضد الجنوب.
وينظر ابناء قبيلة بكيل الى الثورة على انها عودة السلطة الى القبيلة الأكبر في اليمن بعد ان اختطفتها قبيلة حاشد عندما تآمرت مع السعوديين كما يقولون على قتل ابن القبيلة الرئيس الشهيد ابراهيم الحمدي في عام 1977 ، وهذا يعني ان ثورتهم ليست فقط ضد نظام صالح ولكن ايضا ضد قبيلة حاشد وضد الجيش المؤيد للثورة وضد الهاشميين. اما قبيلة حاشد فانها تعرف الثورة بانها استعادة حاشد لمكانتها وقوتها ونفوذها كقبيلة قائدة لليمن منذ عام 1962 بعد ان ضحى صالح كما يرون بالقبيلة لصالح الأسرة مع ما قد ينطوي عليه ذلك من قول بان ثورة حاشد هي ثورة ضد بكيل وضد الهاشميين وضد الجنوبيين وحتى ضد الجيش المؤيد للثورة المنتمي الى حاشد.
وتعرف الثورة القائمة من قبل الجيش المؤيد لها بانها ثورة شعب ضد حاكم فاسد وعودة بالثورة الى مسارها الصحيح وبالجيش الى دوره الوطني الريادي والتحديثي الذي بدأه في 26 سبتمبر 1962 في شمال اليمن عندما اطاح بنظام الإمامة المرتكز على حق الهاشميين المقدس في الحكم. وهذا يعني ان تعريف الجيش للثورة القائمة ينظر اليها على الأقل ضمنيا على انها ليست فقط ثورة ضد نظام صالح ولكنها ايضا مع اختلاف الدرجة ثورة ضد الجماعات الأربع الأخرى المنافسة بما في ذلك قبيلة حاشد نفسها التي ينتمي اليها قادة الجيش.
ولكل تعريف من التعريفات السابقة صوابيته بالنسبة لأنصاره ومريديه وخطأه وزيفه بالنسبة لمنافسيه ومناوئه. وبالطبع فإن كل ثورة من الثورات الخمس المشار اليها بعاليه تقدم نفسها على انها ثورة ليبرالية وتسعى لبناء الدولة المدنية الحديثة في حين ان المقصود في الغالب كما يستدل على ذلك من طبيعة الدعوة هو بناء دولة القبيلة او الطائفة او المنطقة.
التحالفات داخل الثورة
لقد ادى الطابع السري لكل دعوة من الدعوات ضد نظام صالح، فشل بعض الجماعات في مد ايديها لبعضها خلال الأزمات الصعبة او وهو الأسوأ اصطفافها الى جانب النظام، وطول امد الثورة الأم الجامعة لكل الثورات الى تعميق التناقض بين الثورات الخمس. وبدلا من ان تتعاون الجماعات مع بعضها البعض وتوحد صفوفها وصولا الى الحسم سعت كل جماعة الى تحميل الجماعات الأخرى تكلفة الحسم الثوري على وعسى تتمكن هي بعد ذلك من جني اكبر قدر ممكن من الثمار. وبالنسبة للتحالفات داخل صفوف الثورة فإنه يبدو ان هناك تحالفين: الأول ويمكن ان يطلق عليه "تحالف الضعفاء"، ويضم ابناء قبيلة بكيل والجنوبيين والهاشميين؛ والثاني يمثل "تحالف الأقوياء" ويندرج تحته كل من قوى الجيش الموالية للثورة وقبيلة حاشد ومراكز القوى القبلية والدينية المرتبطة بهما.
ويرى المنتمون الى "تحالف الضعفاء" انهم قد دفعوا ثمنا كبيرا في حروب صعدة الست وفي حراك الجنوب وفي غيرها من الأحداث وبان تضحياتهم ومعاناتهم هي التي جعلت ثورة فبراير 2011 ضد نظام صالح ممكنة. كما يشعرون ايضا بالقلق البالغ من حجم القوة والنفوذ الداخلي والخارجي الذي يتوافر لقوى الجيش المؤيدة للثورة وللقوى التقليدية المكونة لقبيلة حاشد او الملتفة حولها وسواء اكانت تلك القوى قبلية او دينية، ويخشون من تحول تلك القوى الى عامل لإخضاع القوى والفئات الاجتماعية الأخرى في ظل النظام الجديد مثلما كانت عاملا هاما في اخضاع القوى الأخرى في ظل نظام صالح.
وقد ادت التباينات بين هذين التحالفين الى ظهور تعريف مسيطر للثورة اليمنية الحالية يتبناه اغلبية في الداخل وربما في الخارج ايضا ويؤكد ذلك التعريف على ان الثورة الحالية تعني اولا ضرب القوة العسكرية والأمنية لنظام صالح سواء اكانت تلك القوة في صفوف الثورة أو في صف النظام، وثانيا ضرب مراكز القوى التقليدية القبلية والدينية والتي تجد نفسها بحكم الإصطفافات التي افرزها نظام صالح تقف الى جانب قوات الجيش الموالية للثورة. وفي ظل هذا التعريف لما يجب ان تكون عليه الثورة، تبدو الحرب الأهلية بمثابة الأمر الذي يمكن تأجيل حدوثه ولكن لا يمكن منع وقوعه. ويأمل انصار هذا التعريف ويعملون ايضا بكل السبل على ان تكون المعركة سريعة وان ينقشع غبار المعركة وقد تم القضاء على قوات الجيش والأمن ومراكز القوى التقليدية القبلية منها والدينية.
مخاطر الحرب المحتملة
تحمل الحرب التي يسعى الكثيرون في الداخل والخارج الى اشعالها الكثير من المخاطر ليس فقط على الذين سيخوضونها ولكن ايضا على المخططين والمصفقين لها. ومن الصعب ان لم يكن من المستحيل تحقيق اهداف الثورة وفي مقدمتها اسقاط نظام صالح عن طريق الحرب. فالحرب المتوقعة اما ان تؤدي الى انتصار طرف على آخر وسيكون على الطرف المنتصر بالتالي مواجهة قوى الثورة الأخرى بعد ان يكون قد حمل على ظهره الكثير من الأوزار، وهذا الاحتمال بالتالي ضعيف لإنه لن يكون هناك حافز لأي طرف من اطراف الحرب لكسبها؛ والاحتمال الثاني هو أن تبدأ الحرب ثم لا تنتهي وان يزداد الأقوياء قوة والضعفاء ضعفا وهذا هو الاحتمال الأقوى كما تبين الحروب الصغيرة الدائرة منذ شهور في كل من ارحب، وابين، وتعز وكما تبين مجريات الثورة السلمية خلال الأشهر السبعة الماضية وكما بينت حرب الحصبة في اواخر مايو 2011.
ثم ان مسألة التمييز الذي دابت بعض الأطراف الداخلية والخارجية على الحديث عنه بين ثورة شبابية سلمية تسعى لإسقاط نظام صالح من جهة وبين صراع عنيف على السلطة من جهة ثانية بين نظام صالح كطرف وقوات الجيش الموالية للثورة مضافا اليها القوى التقليدية قبلية كانت او دينية كطرف آخر لا يخلو من سذاجة يمكن ان تكون مدمرة.
وقد راى الناس ما حدث في حرب الحصبة. فقد ادى فشل النظام في تحقيق اهدافه العسكرية وتكبده لخسائر فادحة هناك الى توجيه الة القتل التي يملكها نحو المعتصمين السلميين في مدينة تعز حيث يمكنه تحقيق انتصار ولو صغير. ضف الى ذلك انه لو كان هذا التمييز صحيحا ما كان الكل احتشد في ساحة التغيير بصنعاء ليحظى بحماية قوات الجيش الموالية للثورة ولكان اولئك الذين يميزون بين انفسهم من جهة وبين قوات الجيش الموالية للثورة والقوى التقليدية من جهة ثانية قد بحثوا لأنفسهم عن ساحة اعتصام اخرى وخصوصا وان اي تفجير عسكري للوضع لن يكون هدفه سوى سحق الشباب في ساحات الحرية وميادين التغيير وان كان سحق ساحات الاعتصامات لن يعني ابدا كسب الحرب.
واذا كان تقرير بعثة الأمم المتحدة الذي تم اشهاره مؤخرا قد جاء انعكاسا في مضمونه للبساطة التي تتعامل بها القوى السياسية اليمنية في السلطة والمعارضة فانه قد اشار الى نقطة في غاية الأهمية وهي ان بقاء الشباب كل هذا الوقت في ميادين الحرية وساحات التغيير وتعرضهم لكل هذا القدر من القمع والاستخدام المفرط للقوة من قبل النظام يعرضهم لتبني مواقف وعقائد متطرفة وقد يجعلهم يتبنون العنف. واذا كان هناك من يعتقد انه يمكن الزج بالبلاد الى حرب اهلية شاملة وفي ذات الوقت الإبقاء على الشباب في الساحات فهو بالتأكيد واهم لإن دخول البلاد في حرب اهلية لن يعني سوى فشل الثورة السلمية في تحقيق اهدافها والدفع بالشباب نحو تبني طرق أخرى في التغيير. وعندما يصبح العنف شاملا وممتدا فانه سيكون من الصعب التمييز بين الجماعات الإرهابية من جهة وغيرها من الجماعات من جهة اخرى.
امكانية تجنب الحرب
ليس هناك حرب لا يمكن تجنبها لكن تجنب الحرب غالبا ما يتطلب تدخلا نشطا من قبل اطراف اخرى. واذا كانت بعض القوى الداخلية والإقليمية والدولية تنظر الى الجيش اليمني وقوى الأمن ومراكز القوى القبلية والدينية على انها اصبحت تمثل قوة معيقة امام التغيير الذي ينشده الجميع فإن ذلك لا يعني ابدا ان الحرب هي الوسيلة الوحيدة لتعبيد الطريق امام التغيير المنشود. فقوات الجيش والأمن يمكن تغيير قياداتها واعادة بنائها على اسس وطنية ولأهداف تخدم الاستقرار والسلم داخليا وخارجيا بدلا من ضربها ببعضها.
اما مراكز القوى بمختلف انواعها وسواء اكانت داخل النظام او خارجه فلا بأس من ارسال ، اذا كان ذلك سيحفظ حياة الالاف من اليمنيين ويقطع الطريق على العرقنة والأفغنة واليمننة والأخيرة قد تكون الأسوأ، عشرين او حتى ثلاثين شخصا الى الخارج في اجازة طويلة او قصيرة كما يقترح الكثيرون من العقلاء على استحياء. واذا ما تم بناء قوات الجيش والأمن على اسس وطنية فإنها ستكون كفيلة بالتعاطي مع مراكز القوى بكافة انواعها حديثة كانت او تقليدية دينية او علمانية مع ملاحظة ان النجاح في اذابة مراكز القوى في اطار الدولة سيظل دائما مرهونا بالتخلص من العوامل البيئية الداخلية والخارجية التي تشكل بيئة خصبة لإنتاج وتكاثر تلك المراكز.
لكن تجنيب اليمن وجيرانه والمجتمع الدولي الخيارات المظلمة التي تبدو وشيكة التحقق في اليمن سيتطلب دورا اقليميا ودوليا نشطا ومتناغما ومتكاملا وكلما حدث ذلك في وقت مبكر كلما قلت التكلفة وسهلت السيطرة على الأوضاع. وعلى العكس من ذلك فان انزلاق اليمن الى حرب شاملة سيضرب اي تناغم ممكن بين القوى الإقليمية ذاتها من جهة وبين القوى الإقليمية من جهة والقوى الدولية من جهة اخرى.
استاذ العلوم السياسية في جامعة صنعاء
للجمهورية اليمنية في الظرف الدقيق الذي تمر به حليفين رئيسيين هما المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة ويتسم موقفهما مما يجري في اليمن بالكثير من الغموض الذي يبعث على الشك. وفي اليمن قبلية وطائفية ومناطقية وعرقية وبنية اجتماعية تقوم على تراتبية متجذرة في الوعي والممارسة ولم تتمكن التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المحدودة خلال نصف قرن من اضعافها بالقدر الكافي. ومقابل كل ذلك هناك نظام اسري عفن شغل نفسه طيلة ثلث قرن بالحفاظ على نفسه فبنى ترسانة عسكرية تعتبر في بعض الجوانب الأقوى في الجزيرة العربية وراح بعد ذلك ولسنين يدك بطائرات الميج منازل مواطنيه في الشمال والجنوب ويقتل النساء والأطفال والشيوخ ويزعزع الاستقرار الإقليمي والدولي.
وهناك احزاب في اليمن اثبتت ثورة فبراير 2011 انها ليست اقل قبلية ولاطائفية ولا مناطقية من القبائل والطوائف والمناطق. وهناك ثورة بدأها الشباب ثم انضم اليها الكثيرون بخيرهم وبشرهم وسواء اكانوا حلفاء لصالح خلال فترة حكمه او معارضين له. واذا كانت الثورة الشبابية الشعبية قد دفعت خلال اشهرها الأولى بأجمل ما في اليمنيين الى الواجهة فإن ما تعرضت له من اعاقة مقصودة من قبل الفاعلين الداخلين والخارجيين قد ادى الى ابراز أسوأ ما في اليمن واليمنيين.
وبينت تطورات الأشهر الماضية ان في اليمن خمس ثورات في ثورة واحدة تتفق فيما بينها في هدف التخلص من صالح واسرته ثم تتناقض اهدافها بعد ذلك، والثورات الخمس هي: ثورة الجيش اليمني؛ ثورة قبيلة حاشد؛ ثورة قبيلة بكيل؛ ثورة الهاشميين؛ وثورة اليمنيين الجنوبيين. اما الشباب الذين بدأوا الثورة متحررين من كل عقد واحقاد وثارات الماضي ومثلوا القوة المركزية التي جذبت الكل ووجهت شراعها نحو المستقبل فقد تحولوا مع مرور الأيام الى مجرد مسامير في اجسام سفن الثورة الخمس التي تتسابق على الفوز بجائزة السلطة. وكان من الطبيعي ان تتلاشى مع مرور الأيام اصوات بشرى المقطري، توكل كرمان، خالد الانسي، رضوان المسعودي، وغيرهم من الشباب الذين فجروا الثورة ليحل محلها اصوات ذات بصمة ترتبط في الذاكرة والوعي الجمعي بالقبيلة والطائفة والمنطقة والمحسوبية السياسية.
ومن الواضح ان كل ثورة من الثورات الخمس السابقة كان لها دعوتها التي عملت تحت الأرض داخل النظام وخارجه لسنوات عديدة وفي معزل كلي او جزئي عن الثورات الأخرى وان كانت قد سعت لأن يكون لها انصارها بين الجماعات الأخرى. واذا كانت ثورة الهاشميين السلمية قد بدأت في فبراير 2011 مع سائر الفئات اليمنية الأخرى، فإن ثورتهم المسلحة كانت قد بدأت قبل ذلك بسبع سنين على الأقل. أما ثورة الجنوبيين على ما يسمونهم بالمستعمرين الشماليين فقد بدأت كدعوة في عام 1994 ثم انتظمت كحركة احتجاجية سلمية في الشارع الجنوبي في عام 2007. وانطلقت ثورة قبيلة حاشد وثورة الجيش كدعوة وكصراع صامت قبل اكثر من عقد ونصف من الزمن. وبالنسبة لدعوة ثورة قبيلة بكيل ضد حاشد فإنها تبدو قديمة جدا لكنها لم تكتسب قوة وصلابة الا خلال السنوات القليلة الماضية وهي السنوات التي شهدت احتدام الصراع داخل قبيلة حاشد التي نظر اليها اليمنيون خلال العقود الثلاثة الماضية على انها القبيلة الحاكمة التي استأثرت بكل شيىء. ولكل ثورة من ثورات اليمن الخمس المشار اليها اعلاه انصارها وداعميها واعدائها في الداخل والخارج.
وكنتيجة لكل ما سبق تجد الثورة اليمنية ضد صالح نفسها امام خمسة تعريفات متناقضة للثورة. فاليمنيون الجنوبيون يعرفون الثورة القائمة بانها تحرير جنوب اليمن من استعمار الشمال، اي انها ثورة ضد نظام صالح وضد الثورات الأربع الأخرى. ويعرف الهاشميون الثورة بانها اعادة الحق المقدس في الحكم الى اصحابه بعد خمسين عاما من الاختطاف، اي ان ثورتهم ليست فقط ضد نظام صالح ولكنها ايضا ثورة ضد الجيش الثائر وضد قبيلة حاشد وضد قبيلة بكيل وضد الجنوب.
وينظر ابناء قبيلة بكيل الى الثورة على انها عودة السلطة الى القبيلة الأكبر في اليمن بعد ان اختطفتها قبيلة حاشد عندما تآمرت مع السعوديين كما يقولون على قتل ابن القبيلة الرئيس الشهيد ابراهيم الحمدي في عام 1977 ، وهذا يعني ان ثورتهم ليست فقط ضد نظام صالح ولكن ايضا ضد قبيلة حاشد وضد الجيش المؤيد للثورة وضد الهاشميين. اما قبيلة حاشد فانها تعرف الثورة بانها استعادة حاشد لمكانتها وقوتها ونفوذها كقبيلة قائدة لليمن منذ عام 1962 بعد ان ضحى صالح كما يرون بالقبيلة لصالح الأسرة مع ما قد ينطوي عليه ذلك من قول بان ثورة حاشد هي ثورة ضد بكيل وضد الهاشميين وضد الجنوبيين وحتى ضد الجيش المؤيد للثورة المنتمي الى حاشد.
وتعرف الثورة القائمة من قبل الجيش المؤيد لها بانها ثورة شعب ضد حاكم فاسد وعودة بالثورة الى مسارها الصحيح وبالجيش الى دوره الوطني الريادي والتحديثي الذي بدأه في 26 سبتمبر 1962 في شمال اليمن عندما اطاح بنظام الإمامة المرتكز على حق الهاشميين المقدس في الحكم. وهذا يعني ان تعريف الجيش للثورة القائمة ينظر اليها على الأقل ضمنيا على انها ليست فقط ثورة ضد نظام صالح ولكنها ايضا مع اختلاف الدرجة ثورة ضد الجماعات الأربع الأخرى المنافسة بما في ذلك قبيلة حاشد نفسها التي ينتمي اليها قادة الجيش.
ولكل تعريف من التعريفات السابقة صوابيته بالنسبة لأنصاره ومريديه وخطأه وزيفه بالنسبة لمنافسيه ومناوئه. وبالطبع فإن كل ثورة من الثورات الخمس المشار اليها بعاليه تقدم نفسها على انها ثورة ليبرالية وتسعى لبناء الدولة المدنية الحديثة في حين ان المقصود في الغالب كما يستدل على ذلك من طبيعة الدعوة هو بناء دولة القبيلة او الطائفة او المنطقة.
التحالفات داخل الثورة
لقد ادى الطابع السري لكل دعوة من الدعوات ضد نظام صالح، فشل بعض الجماعات في مد ايديها لبعضها خلال الأزمات الصعبة او وهو الأسوأ اصطفافها الى جانب النظام، وطول امد الثورة الأم الجامعة لكل الثورات الى تعميق التناقض بين الثورات الخمس. وبدلا من ان تتعاون الجماعات مع بعضها البعض وتوحد صفوفها وصولا الى الحسم سعت كل جماعة الى تحميل الجماعات الأخرى تكلفة الحسم الثوري على وعسى تتمكن هي بعد ذلك من جني اكبر قدر ممكن من الثمار. وبالنسبة للتحالفات داخل صفوف الثورة فإنه يبدو ان هناك تحالفين: الأول ويمكن ان يطلق عليه "تحالف الضعفاء"، ويضم ابناء قبيلة بكيل والجنوبيين والهاشميين؛ والثاني يمثل "تحالف الأقوياء" ويندرج تحته كل من قوى الجيش الموالية للثورة وقبيلة حاشد ومراكز القوى القبلية والدينية المرتبطة بهما.
ويرى المنتمون الى "تحالف الضعفاء" انهم قد دفعوا ثمنا كبيرا في حروب صعدة الست وفي حراك الجنوب وفي غيرها من الأحداث وبان تضحياتهم ومعاناتهم هي التي جعلت ثورة فبراير 2011 ضد نظام صالح ممكنة. كما يشعرون ايضا بالقلق البالغ من حجم القوة والنفوذ الداخلي والخارجي الذي يتوافر لقوى الجيش المؤيدة للثورة وللقوى التقليدية المكونة لقبيلة حاشد او الملتفة حولها وسواء اكانت تلك القوى قبلية او دينية، ويخشون من تحول تلك القوى الى عامل لإخضاع القوى والفئات الاجتماعية الأخرى في ظل النظام الجديد مثلما كانت عاملا هاما في اخضاع القوى الأخرى في ظل نظام صالح.
وقد ادت التباينات بين هذين التحالفين الى ظهور تعريف مسيطر للثورة اليمنية الحالية يتبناه اغلبية في الداخل وربما في الخارج ايضا ويؤكد ذلك التعريف على ان الثورة الحالية تعني اولا ضرب القوة العسكرية والأمنية لنظام صالح سواء اكانت تلك القوة في صفوف الثورة أو في صف النظام، وثانيا ضرب مراكز القوى التقليدية القبلية والدينية والتي تجد نفسها بحكم الإصطفافات التي افرزها نظام صالح تقف الى جانب قوات الجيش الموالية للثورة. وفي ظل هذا التعريف لما يجب ان تكون عليه الثورة، تبدو الحرب الأهلية بمثابة الأمر الذي يمكن تأجيل حدوثه ولكن لا يمكن منع وقوعه. ويأمل انصار هذا التعريف ويعملون ايضا بكل السبل على ان تكون المعركة سريعة وان ينقشع غبار المعركة وقد تم القضاء على قوات الجيش والأمن ومراكز القوى التقليدية القبلية منها والدينية.
مخاطر الحرب المحتملة
تحمل الحرب التي يسعى الكثيرون في الداخل والخارج الى اشعالها الكثير من المخاطر ليس فقط على الذين سيخوضونها ولكن ايضا على المخططين والمصفقين لها. ومن الصعب ان لم يكن من المستحيل تحقيق اهداف الثورة وفي مقدمتها اسقاط نظام صالح عن طريق الحرب. فالحرب المتوقعة اما ان تؤدي الى انتصار طرف على آخر وسيكون على الطرف المنتصر بالتالي مواجهة قوى الثورة الأخرى بعد ان يكون قد حمل على ظهره الكثير من الأوزار، وهذا الاحتمال بالتالي ضعيف لإنه لن يكون هناك حافز لأي طرف من اطراف الحرب لكسبها؛ والاحتمال الثاني هو أن تبدأ الحرب ثم لا تنتهي وان يزداد الأقوياء قوة والضعفاء ضعفا وهذا هو الاحتمال الأقوى كما تبين الحروب الصغيرة الدائرة منذ شهور في كل من ارحب، وابين، وتعز وكما تبين مجريات الثورة السلمية خلال الأشهر السبعة الماضية وكما بينت حرب الحصبة في اواخر مايو 2011.
ثم ان مسألة التمييز الذي دابت بعض الأطراف الداخلية والخارجية على الحديث عنه بين ثورة شبابية سلمية تسعى لإسقاط نظام صالح من جهة وبين صراع عنيف على السلطة من جهة ثانية بين نظام صالح كطرف وقوات الجيش الموالية للثورة مضافا اليها القوى التقليدية قبلية كانت او دينية كطرف آخر لا يخلو من سذاجة يمكن ان تكون مدمرة.
وقد راى الناس ما حدث في حرب الحصبة. فقد ادى فشل النظام في تحقيق اهدافه العسكرية وتكبده لخسائر فادحة هناك الى توجيه الة القتل التي يملكها نحو المعتصمين السلميين في مدينة تعز حيث يمكنه تحقيق انتصار ولو صغير. ضف الى ذلك انه لو كان هذا التمييز صحيحا ما كان الكل احتشد في ساحة التغيير بصنعاء ليحظى بحماية قوات الجيش الموالية للثورة ولكان اولئك الذين يميزون بين انفسهم من جهة وبين قوات الجيش الموالية للثورة والقوى التقليدية من جهة ثانية قد بحثوا لأنفسهم عن ساحة اعتصام اخرى وخصوصا وان اي تفجير عسكري للوضع لن يكون هدفه سوى سحق الشباب في ساحات الحرية وميادين التغيير وان كان سحق ساحات الاعتصامات لن يعني ابدا كسب الحرب.
واذا كان تقرير بعثة الأمم المتحدة الذي تم اشهاره مؤخرا قد جاء انعكاسا في مضمونه للبساطة التي تتعامل بها القوى السياسية اليمنية في السلطة والمعارضة فانه قد اشار الى نقطة في غاية الأهمية وهي ان بقاء الشباب كل هذا الوقت في ميادين الحرية وساحات التغيير وتعرضهم لكل هذا القدر من القمع والاستخدام المفرط للقوة من قبل النظام يعرضهم لتبني مواقف وعقائد متطرفة وقد يجعلهم يتبنون العنف. واذا كان هناك من يعتقد انه يمكن الزج بالبلاد الى حرب اهلية شاملة وفي ذات الوقت الإبقاء على الشباب في الساحات فهو بالتأكيد واهم لإن دخول البلاد في حرب اهلية لن يعني سوى فشل الثورة السلمية في تحقيق اهدافها والدفع بالشباب نحو تبني طرق أخرى في التغيير. وعندما يصبح العنف شاملا وممتدا فانه سيكون من الصعب التمييز بين الجماعات الإرهابية من جهة وغيرها من الجماعات من جهة اخرى.
امكانية تجنب الحرب
ليس هناك حرب لا يمكن تجنبها لكن تجنب الحرب غالبا ما يتطلب تدخلا نشطا من قبل اطراف اخرى. واذا كانت بعض القوى الداخلية والإقليمية والدولية تنظر الى الجيش اليمني وقوى الأمن ومراكز القوى القبلية والدينية على انها اصبحت تمثل قوة معيقة امام التغيير الذي ينشده الجميع فإن ذلك لا يعني ابدا ان الحرب هي الوسيلة الوحيدة لتعبيد الطريق امام التغيير المنشود. فقوات الجيش والأمن يمكن تغيير قياداتها واعادة بنائها على اسس وطنية ولأهداف تخدم الاستقرار والسلم داخليا وخارجيا بدلا من ضربها ببعضها.
اما مراكز القوى بمختلف انواعها وسواء اكانت داخل النظام او خارجه فلا بأس من ارسال ، اذا كان ذلك سيحفظ حياة الالاف من اليمنيين ويقطع الطريق على العرقنة والأفغنة واليمننة والأخيرة قد تكون الأسوأ، عشرين او حتى ثلاثين شخصا الى الخارج في اجازة طويلة او قصيرة كما يقترح الكثيرون من العقلاء على استحياء. واذا ما تم بناء قوات الجيش والأمن على اسس وطنية فإنها ستكون كفيلة بالتعاطي مع مراكز القوى بكافة انواعها حديثة كانت او تقليدية دينية او علمانية مع ملاحظة ان النجاح في اذابة مراكز القوى في اطار الدولة سيظل دائما مرهونا بالتخلص من العوامل البيئية الداخلية والخارجية التي تشكل بيئة خصبة لإنتاج وتكاثر تلك المراكز.
لكن تجنيب اليمن وجيرانه والمجتمع الدولي الخيارات المظلمة التي تبدو وشيكة التحقق في اليمن سيتطلب دورا اقليميا ودوليا نشطا ومتناغما ومتكاملا وكلما حدث ذلك في وقت مبكر كلما قلت التكلفة وسهلت السيطرة على الأوضاع. وعلى العكس من ذلك فان انزلاق اليمن الى حرب شاملة سيضرب اي تناغم ممكن بين القوى الإقليمية ذاتها من جهة وبين القوى الإقليمية من جهة والقوى الدولية من جهة اخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق